تقدم الحديث معنا في علم التفسير من قبل. وعلمنا أنه يهدف إلى توضيح وتبيين معنى كلام الله سبحانه بحسب الطاقة البشرية بعد الاستعانة بعلوم عديدة أخرى.
أهداف علوم القرآن وتنوعها:
ولكن علم التفسير ليس إلا علماً واحداً من علوم شتى كلها تتعلق بالقرآن الكريم، اصطلح على تسميتها بعلوم القرآن الكريم. وهي مجموعة من العلوم تدور في فلك القرآن العظيم، وتنسج مسائلها حوله، وتستمد فروعها وشعبها منه، وتهدف كلها إلى خدمته وإلقاء الأضواء الكاشفة عليه، وإزاله الشبهات من حوله، وبيان تناسقه ومحاسنه، ورد كيد الكائدين له وإزاحة النقاب عن أسراره ومعانيه.
وتكاد لا تقع تلك العلوم تحت حصر أوعد.
وقد تعددت أقوال العلماء في عددها فمن مُقِل أو مُكثر، ومن قانع ومن مستزيد، حتى أوصلها بعضهم إلى أرقام عجيبة مدهشة لعامة الناس الذي يقنعون من بحر القرآن بساحله، ومن ثمراته بأدناها وأقربها، دون أن ينهضوا بهممهم، أو يرتفعوا بأفهامهم، أو يتجشموا المشاق، أو ينقبوا بحرص، كماهو شأن الخاصة من علماء الأمة وأصفياء الله.
قال ذو النون المصري رحمه الله: أبى الله عز وجل إلا أن يحرم قلوب البطالين مكنون حكمة القرآن.
الزركشي... ونظرة شاملة إلى علوم القرآن:
ومن المفيد جداً في هذا الباب أن ننقل كلمة جامعة واسعة في تعداد علوم القرآن ،سطرها عالم خبير وجهبذ نحرير، شهد له القاصي والداني بهذا المقام الرفيع. ألا وهو الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة 794هـ في مقدمة كتابه الشهير (البرهان في علوم القرآن). يقول رحمه الله:
ولما كانت علوم القرآن لا تنحصر، ومعانيه لا تستقصى، وجبت العناية بالقَدْر الممكن. ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه، كما وضع الناس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث. فاستخرت الله تعالى ـ وله الحمد ـ في وضع كتاب في ذلك جامع لما تكلّم الناس في فنونه، وخاضوا في نكته وعيونه، وضمنته المعاني الأنيقة والحكم الرشيقة. مايهز القلوب طرباً، ويبهر العقول عجباً، ليكون مفتاحاً لأبوابه وعنواناً على كتابه.. وسميته (البرهان في علوم القرآن) وهذه فهرست أنواعه.
ويأخذ الزركشي في تعداد علوم القرآن علماً علماً فيقول:
الأول: معرفة سبب النزول.
الثاني: معرفة المناسبات بين الآيات.
الثالث: معرفة الفواصل.
الرابع: معرفة الوجه والنظائر.
الخامس: علم المتشابه.
السادس: علم المبهمات.
ومن الإطالة أن نستعرض جميع العلوم التي سردها الزركشي، إذ أنه يبلغ بها سبعة وأربعين علماً ولكنا نذكر منها إضافة إلى ما مر قبل: علم مرسوم الخط، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم آداب التلاوة، وعلم المكي والمدني، وعلم المحكم والمتشابه، وعلم أساليب القرآن، وعلم أسرار الفواتح، وعلم خواتيم السور... الخ.
ويختم الزركشي تعداده لعلوم القرآن بقوله: واعلم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره ثم لم يُحْكم أمره ولكن اقتصرنا من كل نوع على أصوله والرمز إلى بعض فصوله فإن الصناعة طويلة والعمر قصير، وماذا عسى أن يبلغ لسان التقصير.
من مواضيع علوم القرآن:
ولايتسع المقام لتناول كل موضوع من مواضيع علوم القرآن بشيء من التفصيل كما فعلنا من قبل بالنسبة لعلم التفسير. ولكنا نجد لزاماً علينا أن نقف مع بعض تلك المواضيع وقفات سريعة وعاجلة.
1) أسباب النزول:
وقد أفرده بالتأليف كثير من العلماء، منهم على بن المديني شيخ البخاري والواحدي والسيوطي وغيرهم.
ومعرفة سبب النزول توصلنا إلى المعنى الصحيح للآية وتبين لنا الحكمة الباعثة عليه، وقد يكون لفظ النص عاماً إلا أن الدليل يقوم على التخصيص، فنحتاج إلى معرفة سبب النزول لمعرفة تخصيص العام. كما نحتاج إلى معرفة أسباب النزول لإزالة بعض الإشكالات.
2) معرفة المناسبات بين الآيات:
أي معرفة الرابط الذي يضم هذه الآية إلى التي تليها، وهذه السورة إلى ما بعدها، وذلك ولا شك ـ كما يقول الزركشي ـ علم شريف تُحزَرُ به العقول، ويعرف به قدر القائل فيما يقول.
وقد أفرده بالتصنيف أبو جفعر بن الزبير في كتابه (البرهان في مناسبة ترتيب سورة القرآن). كما ألف فيه البقاعي كتابه (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور).
قال الشيخ أبو الحسن الشهراباني: أول من أظهر ببغداد علم المناسبة ـ ولم نكن سمعناه من غيره ـ الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب. وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه الآية: لم جُعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة من جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟
3) علم المتشابه:
وهو إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة ويكثر ذلك في ايراد القصص والأنباء مثل معرفة الحكمة من الفرق بين قوله تعالى {وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة } في البقرة(58) وقوله { وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً } في الأعراف(161). ونحو ذلك وهو أنواع كثيرة.
وقد صنف فيه جماعة من العلماء منهم السخاوي في منظومته هداية المرتاب في المتشابه. وصنف في توجيهه أبو القاسم الكرماني تاج القراء كتابه البرهان في متشابه القرآن، وصنف فيه الرازي كتابه: درة التنزيل وغرة التأويل.
5) علم المبهمات:
أي مالم يذكر اسمه في الآية ولم يحدد ـ إن لم يكن مما استأثر الله بعلمه ـ مثل معرفة أي مسجد قصده الله بقوله: { لمسجد أسس على التقوى} (التوبة/108) ومعرفة الصحابي المقصود بقوله سبحانه { الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى...} (الليل/19) وهذا الصنف كثير في كتاب الله، وهو علم لطيف لا يعلمه كثير من الناس.
وقد صنف فيه عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي كتابه: التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام ، وكذلك فعل ابن عساكر في كتابه التكميل والإتمام وغيرهما.
6) أسرار الفواتح والسور:
وقد افتتح سبحانه وتعالى سور القرآن العزيز بعشرة أنواع من الكلام، منها الثناء عليه، وحروف الهجاء، والنداء، والقسم، والجمل الخبرية، والشرط، والأمر، والاستفهام، والدعاء، والتعليل.
وقد ألف في هذا العلم ابن أبي الأصبع كتابه الخواطر والسوانح في أسرار الفواتح. ونقل عنه السيوطي في الاتقان...
ومن هذا النوع من علوم القرآن يلغز بالنسبة لسور القرآن المائة والأربع عشر فيقال: ما شيء إذا عددته زاد على المائة وإذا عددت نصفه كان دون العشرين... إذ لا شك أن نصف القرآن الأول يحتوي على ثماني عشرة سورة فقط.
7) ومن علوم القرآن الكريم المكي والمدني :
وفائدته معرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة المخاطبين بالآيات ونحو ذلك.
ولا شك أن القرآن المكي أكثر مما نزل بالمدينة من القرآن.
وقد اختلف العلماء في تعريف المكي والمدني. فمن قائل المكي هو ما نزل بمكة، والمدني ما نزل بالمدينة. ومن قائل: المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، وآخرون قالوا: المكي ما جاء خطاباً لأهل مكة، والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة. ومعرفة ذلك إما عن طريق النقل والسماع، أوعن طريق القياس على القواعد.
وهناك مسائل كثيرة ملحقة بالمكي والمدني كمسألة ما نزل في غير مكة والمدينة، ومسألة ما أشبه القسم الآخر وهو ليس منه، ومسألة ما نزل من القرآن ليلاً أونهاراً، ومسألة ما نزل من القرآن مشيعاً ومحفوفاً بالملائكة تكريماً له وتشريفاً.
ومن علوم القرآن الكريم معرفة على كم لغة أُنزل:
فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني جبريلُ على حرف فراجعته ثم لم أزل استزيده فيزيدني حتى انتهى على سبعة أحرف ". وفي حديث آخر" إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه " متفق عليه.
وفي معنى سبعة أحرف أقوال للعلماء كثيرة أهمها وأقواها أنها سبع لغات لسبع قبائل من العرب. أي نزل القرآن بعضه بلغة قريش، وبعضه بلغه هذيل، وبعضه بلغة تميم، وبعضه بلغة أزد وربيعه، وبعضه بلغة هوازن وسعد بن بكر وهكذا .
ولكن العلماء متفقون على أنه لا تجوز قراءته بأي لغة من تلك اللغات أو لجهة من هذه اللهجات إلا سماعاً ونقلاً لا اجتهاداً وقياساً.. ولاشك أن في تلك السبعة الأحرف توسعة وتسهيلاً.
روى الترمذي عن أبي بن كعب أنه: لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ. فقال: يا جبريل إني بعثت إلى أمةٍ أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط. فقال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
قال الله تعالى: { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } (القمر/17).
9) ومن علوم القرآن ما يتعلق بجمعه وحفظه:
أما حفظه في الصدور ـ وهو السابق زمناً وواقعا ـ فقد كان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم يحفظونه كاملاً بالتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما حفظه في الألواح والعظام ونحو ذلك فقد كان محفوظاً كاملاً فيها، لكنه كان متفرقاً بين أيدي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن كل قطعة من القرآن كان يحفظها جماعة كثيرة أقلهم بالغون حد التواتر.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"(رواه أحمد عن عثمان رضي الله عنه).
وأما جمعه كاملاً في مصحف واحد فقد قام بهذه المهمة الجليلة خير قيام أول الأمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه ،حيث كلف زيد بن ثابت رضي الله عنه بذلك. ثم إن عثمان بن عفان رضي الله عنه جمع الناس كلهم في سائر الأمصار على مصحف واحد، وأحرق ما سواه مما كان متفرقاً أو كان مختلطاً بسواه.
10) ومن علوم القرآن الكريم إعرابه:
وقد عني العلماء بذلك عناية فائقة لما للاعراب من علاقة بتحديد المعنى.
وممن ألف في إعراب القرآن الكريم الإمام الحوفي في كتابه (البرهان في تفسير القرآن). ومكي بن أبي طالب في كتابه (المشكل في إعراب القرآن). والعكبري في كتابه (إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في القرآن) وأبو حيان النحوي في كتابه ( البحر المحيط).
وإعراب القرآن ومعرفة أحكام ذلك من جهة إفرادها وتركيبها فن عظيم وعلم واسع، تقصر عنه همم العلماء، وتنقطع دونه أعناق الإبل كما أن له آداباً وضوابط.
يقول أبو حيان التوحيدي في البصائر: سألت السيرافي عن قوله تعالى{ قائماً بالقسط }(آل عمران/18) بم انتصب. قال: بالحال. قلت: لمن الحال. قال: لله تعالى قلت: فيقال لله حال. قال: إن الحال في اللفظ لا لمن يلفظ الحال عنه.
11) ومن علوم القرآن الكريم معرفة الوقف والابتداء..
وهوـ كما يقول الزركشي ـ فن جليل وبه يعرف كيف أداء القرآن، ويترتب على ذلك فوائد كثيرة واستنباطات غزيرة وبه تبيّن معاني الآيات، ويؤمن الاحتراز عن الوقوع في المشكلات.
وقد بين أبو بكر بن مجاهد شرائط متقن هذا العلم بقوله: لايقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات، عالم بالتفسير والقصص، وتخليص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن ..
والوقف عند أكثر القراء ينقسم إلى أربعة أقسام، تام مختار، وكافٍ جائز، وحسن مفهوم، وقبيح متروك ولكل قسم أمثلة كثيرة.
وقد عني العلماء بهذا العلم من علوم القرآن فها هو الزجاج يصنف فيه كتابه (القطع والاستئناف) وكذلك الداني فعل في كتابه ( الاكتفاء في الوقف والابتداء). ومثلهما فعل العماني وابن الأنباري وابن عباد.
وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنهم كانوا يعلَّمون ما ينبغي أن يوقف عنده كما يتعلمون القرآن.
12) ومن علوم القرآن الكريم المتعلقة به علم مرسوم الخط:
وبه يعرف كيف تكتب كلمات القرآن تبعاً لخط المصحف الإمام أي خط مصحف عثمان..
ولقد أثر أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في كتابة التابوت(البقرة/248)، فقال زيد: اكتبوها التابوه بالتاء المربوطة، وقال النفر القرشيون: بل تكتب ( التابوت ) بالتاء المفتوحة، وترافعوا إلى عثمان رضي الله عنه فقال : اكتبوا التابوت، فإنما نزل القرآن على لسان قريش( رواه البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه).
ولذلك فكتابة بعض الكلمات في المصحف قد تزاد فيها حرف الألف مثل {لا أذبحنه}(النمل/21) أو الياء مثل { وايتاءي ذي القربى }(النحل/90) أو الواو مثل { سأوريكم دار الفاسقين }(الأعراف/145). أوقد تحذف منها الألف مثل { بسم الله }(الفاتحة/1) أو الواو مثل { ويمحُ الله الباطل }(الشورى/24) أو الياء مثل { وإياي فارهبون }(البقرة/40).
ومما يتعلق بهذا العلم حكم ترجمة القرآن إلى غير العربية هل تجوز أم لا؟ وهل تسمى قرآناً؟ أم هي نقل لمعانيه لا لألفاظه؟
13) ومن علوم القرآن الكريم علم معرفة فضل القرآن بشكل عام، وفضل الآيات التي وردت فيها نصوص معينة بشكل خاص .
ورد مثلاً في فضل آية الكرسي. { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } (البقرة/255) في الصحيحين من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي آية في كتاب الله أعظم. قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " يا أبيّ ! أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: قلت: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } قال فضرب في صدري وقال ليهنِك العلم أبا المنذر ".
وكذلك ورد في فضل سورة الفاتحة وسورة البقرة وسورة يس وسورة { قل هو الله أحد }.
ومن هذا العلم معرفة أي آية في كتاب الله أرجى، وأي آية في كتاب الله أخوف.
14) ومن علوم القرآن الكريم معرفة الأمثال الكائنة فيه..
قال الزركشي : وقد عده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن، فقال ـ أي في معرض سرده لشروط المجتهد ـ قال: ثم معرفة ما ضَرَب فيه من الأمثال الدوالّ على طاعته المثبتة لاجتناب معصيته...
وقد صنف فيه من المتقدمين الحسن بن الفضل وغيره.
ويكفي هذا العلم مزية وتفخيماً قوله سبحانه ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون )(العنكبوت/43). وقد أتت أمثلة القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر على المدح والذم وعلى الثواب والعقاب وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره.
روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، ومحكم ، وحرام، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال ".
15) ومن علوم القرآن علم معرفة موهم المختلف. أي ما يوهم التعارض بين آياته وهو ليس كذلك، لأن كلام الله جل جلاله منزه عن الاختلاف. قال تعالى { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً }(النساء/82). وإنما يحتاج المبتدئ إلى معرفة ما يزيل وهمه أول الأمر.
وقد ألف في هذا العلم أبو على محمد بن المستنير كتاب ( الرد على الملحدين في تشابه القرآن).
وفي هذا العلم ذكر العلماء مرجحات عند تعارض آيتين: فأولاً تقديم المكي على المدني، ثم من المرجحات أن يكون أحد الحكمين على غالب أحوال أهل مكة، والثاني على غالب أحوال أهل المدينة. ثم أن يكون أحد الظاهرين مستقلاً بحكمه، والآخر مقتضياً لفظاً يزاد عليه، ثم أن يكون كل واحد من العمومي محمولاً على ما قصد به في الظاهر عند الاجتهاد، فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر وغير ذلك من المرجحات.
وقد حكى أبو العباس بن سريح قال: سأل رجلُُ بعض العلماء عن قوله تعالى { لا أقسم بهذا البلد }(البلد/1) فأخبر سبحانه أنه لا يقسم بهذا البلد، ثم أقسم به في قوله {وهذا البلد الأمين }(التين/3) فقال ابن سريح: أي الأمرين أحب إليك؛ أجيبك ثم أقطعك؟ أو أقطعك ثم أجيبك؟ فقال: بل اقطعني ثم أجبني. قال: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة رجالٍ وبين ظهراني قومٍ، وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزاً، وعليه مطعناً، فلو كان هذا عندهم مناقضة لعلّقوا به وأسرعوا بالرد عليه. ولكنّ القوم علموا وجهلتَ، فلم ينكروا ما أنكرت. ثم قال: إن العرب قد تدخل " لا" في أثناء كلامها وتلغى معناها.
وفي ختام الحديث عن علوم القرآن الكريم، التي هي بمثابة حصونٍ لحمايته، وأدواتٍ لفهمه ووسائل لدعوته، نعود فنذكر أننا لم نستعرض إلا طرفاً، ولم نذكر إلا حرفاً... فسبحان من جعل القرآن العظيم بحراً لا ساحل له، ولا نهاية لأعاجيبه، ولا مطمح للأنفس في بلوغ قعره.
{ قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً}(الكهف/109).