في السنة
الحادية عشرة للهجرة، وفي الثاني عشر من شهر ربيع الأول، يوم الاثنين ساعة
الضحى، والتي توافق السابع من حزيران يونيو سنة اثنتين وثلاثين وستمائة من
ميلاد السيد المسيح -عليه السلام- انتقل النبي محمد صلى الله عليه وآله إلى
الرفيق الأعلى، بعد ثلاث وستين سنة، قضى منها ثلاثًا وعشرين سنة في الدعوة
وتبليغ الرسالة، وكان قبل يوم من وفاته قد أعتق غلمانه، وتصدق بدنانير
كانت عنده وقال: (لا نورث ما تركنا صدقة).
وفي رواية قال: (لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة
عاملي فهو صدقة).
وكان لما ثقل عليه المرض ولم يستطع الخروج ليصلي بالناس قال: (مروا أبا
بكرٍ أن يصلي بالناس).
وحين مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقف أبو بكر في المسجد بين الناس
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس... إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله
فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ
انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:
144].
انتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الدار الآخرة، بعد أن بلغ الرسالة،
وأدى الأمانة، ونشر الدعوة في بلاد العرب، وجاءته القبائل على قدرٍ وفودًا
وفودًا، وغدت الجزيرة العربية من اليمن إلى حدود فارس والروم تدين
بالإسلام، وأصبح العرب في دولة واحدة، كما تطلع النبي الكريم إلى خارج حدود
الجزيرة العربية، فكانت رسائله إلى الملوك، إشارة تبليغ بقدوم دين جديد،
يحمل العدل والخير للإنسان، بدل الظلم والذل والعبودية والهوان، ولم تكن
تلك الدول ضعيفة، بل كانت في أوج عظمتها، فمنهم من هزئ بكتابه وأمر بقتله،
ومنهم من أرسل له الهدايا وشعر بعظمته.
وكانت بلاد فارس في شمال شرق بلاد العرب دولة بأس وقوة وسلطان ونظام، يقوم
على رأسها ملك مرهوب الجانب، يسميه العرب كسرى، وهي كلمة معربة من كلمة
خسرف الفارسية التي تعني الملك، ويعاونه وزير يقال له الدوستفار، وهي كلمة
فارسية، تعني صاحب النظام، ومنها تولدت كلمة الدستور، أي النظام أو
القانون.
وتمتد إمبراطورية فارس في ذلك الوقت فوق هضبة إيران حتى نهر الميرجاب
شرقًا، وعاصمتهم المدائن طيشفون على نهر دجلة في بلاد العراق، ويدينون
بالزرادشتية والمانوية، ويعبدون النار، ويطلق العرب عليهم اسم المجوس
ويعتبر جيشهم من أعظم الجيوش، فيه فرقة فرسان عظيمة الشأن، وفرقة مشاة قوية
البأس، ويستخدمون في حروبهم الفيلة، وكان العرب اللخميون المناذرة، والذين
يسكنون جنوب شرق العراق وعاصمتهم الحيرة، تحت نفوذهم وسلطانهم.
وأيام بعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- سنة عشر وستمائة ميلادية،
اجتاح جيش الفرس بلاد الشام ومصر، وهزموا البيزنطيين سنة ثلاث عشرة وستمائة
ميلادية عند أنطاكية، واستولوا على فلسطين والقدس سنة أربع عشرة وستمائة،
ودخلوا الإسكندرية سنة ثماني عشرة وستمائة، وإلى ذلك أشار القرآن العظيم في
سورته الثلاثين فقال تعالى: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ
سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيوْمَئِذٍ يَفْرَحُ
الْمُؤْمِنُونَ) [الروم: 1: 4].
وفي الجهة الأخرى من شمال غرب الجزيرة العربية كانت تقوم دولة "الروم"، وهي
دولة قوية عظيمة يمتد سلطانها إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر، ويوالونهم
العرب الغساسنة، الذين يستظلون بحمايتهم ورعايتهم، ويسكنون الأرض الممتدة
من الأردن حتى دمشق.
وبالرغم من هزيمتهم أمام الفرس فقد بشر القرآن العظيم بانتصارهم في بضع
سنين، وتلك من معجزات الكتاب الذي لا يأتيه الباطل، فقد قاتل هرقل الفرس
وهزمهم سنة سبع وعشرين وستمائة قرب نينوى، واسترد أراضي إرمينية والشام
وفلسطين ومصر، واستعاد بيت المقدس سنة ثلاثين وستمائة ميلادية، تلك هي حال
الجزيرة العربية، وما جاورها من أحداث شغلت القوى العظمى فارس والروم، من
يوم مبعث النبي صلى الله عليه وآله إلى يوم قبض.
وما إن توفي حتى سرى نبأ وفاته بسرعة البرق في بلاد العرب، ولم تكن دعائم
الدولة الإسلامية الفتية قد استقرت بعد، ولم يكن الدين الجديد قد تمكن في
قلوب أبناء القبائل النائية كتمكنه في قلوب الصحابة من المهاجرين والأنصار،
فتململت النفوس لخضوعها لسلطان المدينة، حتى أن أهل مكة هموا بشق عصا
الطاعة والتمرد والردة، لولا أن وقف فيهم سهيل بن عمرو على باب الكعبة
قائلاً: من رابنا ضربنا عنقه.
وصاح بهم: يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد، والله ليتمن
الله هذا الأمر كما ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلقد رأيته قائمًا
مقامي هذا وحده، وهو يقول: (قولوا معي لا إله إلا الله، تدين لكم العرب،
وتؤدي إليكم الأعاجم الجزية، والله لتنفقن كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله)،
فمن بين مستهزئ ومصدق فكان ما رأيتم، والله ليكونن الباقي. فكفوا عن
عصيانهم والردة.
وكذلك كان أمر سقيف فخاطبهم عثمان بن أبي العاص، وثبتت القبائل المقيمة بين
مكة والمدينة والطائف ثبتت مزينة، وغفار، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وخزاعة.
واضطربت القبائل البعيدة والحديثة العهد بالإسلام، وكان أن ظهر أدعياء
النبوة، كطليحة في بني أسد، وسجاح في بني تميم، ومسيلمة في اليمامة، وذي
التاج لقيط بن مالك في عمان، والأسود بن عنزة العنسي في اليمن، الذي امتد
خطره إلى مناطق واسعة في الجزيرة العربية، ودانت له البوادي والحواضر، ما
بين مفازة حضرموت إلى الطائف والبحرين والإحساء إلى عدن, وانضم إليه كثير
من أهل نجران، وساروا معه إلى صنعاء، وقُتل الأسود قبل وفاة النبي -صلى
الله عليه وسلم- بأيام.
وفي الطبري، أنه أوحي للنبي ذلك ليلة حدوثه فقال: (قتل العنسي، قتله رجل
مبارك من أهل بيت مباركين).
وفي الكامل لابن الأثير، قال فيروز: لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان
إلى معاذ بن جبل، فصلى بنا ونحن راجون مأملون، لم يبقى شيء نكرهه، إلا تلك
الخيول من أصحاب الأسود، ثم جاء موت النبي -صلى الله عليه وسلم- فانتقضت
الأمور واضطربت الأرض، ويعود الأسود إلى عنس وهي بطن من مذحج، واسمه عبهلة
بن كعب بن عوف، وكان يلقب ذا الخمار لأنه كان معتما متخمرا أبدا، وكان
مشعبذا كاهنا يحتال ويستهوي العامة بأقواله، ولقب نفسه رحمان اليمن، وكان
يزعم أن له شيطانا يخبره بكل شيء، ويكشف له خطط أعدائه.
وأما طليحة بن خويلد الأسدي، فقد تنبأ في حياة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في بني أسد، ووجه إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- ضرار بن الأزور،
فقاتله وضربه بالسيف، فلم يؤثر فيه، وكان ذلك سببًا بين الناس للاعتقاد به،
فالسلاح لا يعمل فيه، فكثر جمعه، وكان طليحة يقول: إن جبرائيل يأتيني،
وسجع للناس الأكاذيب، وكان يأمرهم بترك السجود في الصلاة ويقول: اذكروا
الله أعفة قيامًا، وتبعه كثير من العرب عصبية، فكان أكثرهم من أسد وغطفان
وطيء.
وأما مسيلمة فكان قد جاء مع وفد بن حنيفة، وقد أكرمهم النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأعطاهم العطايا، وعادوا إلى ديارهم، ثم أرسل مسيلمة رسولين إلى
المدينة يحملان كتابا فيه: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام
عليكم أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا لنصف الأرض، ولقريش نصف
الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون.
وسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- الرسولين حين سمع الكتاب: (فما تقولان؟)،
قالا: نقول كما قال، فنظر إليهما -صلى الله عليه وسلم- مغضبًا قائلاً:
(أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما)، ثم أرسل معهما كتابا
فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما
بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده المتقين).
وقدر النبي -صلى الله عليه وسلم- خطورة دعوة مسيلمة، فما لبث أن أرسل
الرحال بن عنفوة من المسلمين الذين تفقهوا في الدين، ليقطع دابر الفتنة
ويظهر كذب مسيلمة، وكانت الفتنة أعظم حين انضم الرحال إلى مسيلمة وصدقه على
ما يقول، واضطرمت نار الشعوذة وازداد مسيلمة نفوذا وازداد ادعائه انتشارا.
وكانت غزوة تبوك بداية لمناوشة القوى العظمى وإظهارًا للدعوة الإسلامية وما
ستحمله في مستقبل القريب من حرية للشعوب المظلومة المستضعفة، إلا أن لكل
أجل كتاب، فقد استأثر الله بنبيه -صلى الله عليه وسلم- وقد أكمل دينه وأتم
نعمته كما قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:
3].
وسرعان ما أسرع الأنصار في المدينة لعقد اجتماع يولون فيه أمرهم وأمر
المسلمين، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وأنظارهم تتجه إلى سعد بن عبادة
وهو يقول: يا معشر الأنصار، إن لكم لسابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام،
ليست لقبيلة من العرب، إن محمدًا -عليه السلام- لبث بضع عشر سنة في قومه
يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا
رجال قليل، وما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله ولا أن يعزوا دينه، ولا
أين يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به، فلما أراد لكم ربكم الفضيلة، ساق إليكم
الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له
ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد له لأعدائه فكنتم أشد الناس على
عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا
وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داخرًا، وحتى أثخن الله -عز وجل-
لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راض،
وبكم قرير عين، فاستبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنه لكم دون الناس.
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد أيقن بوفاة النبي -عليه السلام- يفكر
فيما عسى أن يكون الأمر من بعده، ولم يكن يدري أن الأنصار قد سبقوه، ففي
طبقات ابن سعد أتى عمر أبا عبيدة بن الجراح فقال: ابسط يدك فلأبايعك، فأنت
أمين هذه الأمة على لسان رسول الله، فقال أبو عبيدة لعمر: ما رأيت لك
فَهَّةً، أي سقطة، قبلها منذ أسلمت، أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين.
ويأتي خبر اجتماع الأنصار في السقيفة فيسرع عمر طالبًا أبا بكر وهو منشغل
بجهاز رسول الله ويلح عليه ليخبره، وينطلق الثلاثة أبو بكر وأبو عبيدة
وعمر، ويبلغون السقيفة والأنصار في حوارهم لم يبايعوا بعد سعدا فأسقط في
أيديهم، وفي الكامل لابن الأثير قال عمر: فأتيناهم وقد كنت زورت كلاما
أقوله لهم، فلما دنوت أقول أسكتني أبو بكر وتكلم بكل ما أردت أن أقول، فحمد
الله وقال:
إن الله قد بعث فينا رسولاً شهيدًا على أمته ليعبدوه ويوحدوه، وهم يعبدون
من دونه آلهة شتى من حجر وخشب، فعظم على العرب أن يتركوا دين أبائهم، فخص
الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، والمواساة له والصبر معه على شدة
أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياه، وكل الناس لهم مخالف زارٍ عليهم، فلم
يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم، فهم أول من عبد الله في هذه الأرض،
وآمن بالله وبالرسول، وهم أوليائه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده،
لا ينازعهم إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا
سابقتهم في الإسلام، رضيكم الله أنصارًا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته،
فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء،
لا تفاوتون بمشورة ولا تقضى دونكم الأمور