أبو تراب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
فضيلة الشَّيخ عثمان بن محمَّد الخميس حفظه الله
السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، مالكِ يومِ الدِّين ، الحمدُ لله وليّ الصَّالحين ، الحمدُ لله الذي مَنَّ علينا بِنِعَمٍ كثيرةٍ لا تعَدُّ ولا تحصى ، الحمدُ لله على نعمةِ الإسلام ، وعلى نعمةِ الإيمان ، وعلى نعمةِ القرآنِ ، وعلى نعمةِ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، نحمدُه حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمين نبيِّنا وإمامِنا وحبيبِنا وسيِّدنا و قُرَّةِ عينِنا محمَّد بنِ عبدِ الله وعلى آلهِ وصحابتهِ أجمعين .
أمَّا بعد :
فإنَّ الله تباركَ وتعالى قالَ في كتابهِ العزيزِ : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) " سورة الذَّاريات ، خلقَ الله تباركَ وتعالى الإنسَ والجِنَّ لغايةٍ عظيمةٍ ألا وهي أنْ يُعْبَدَ ربُّنا سبحانه وتعالى في هذه الأرضِ ، وأرسلَ الرُّسُلَ مبشِّرين ومنذِرين ، وأنزلَ معهمُ الكُتُبَ ، واستمرَّ الرُّسُلُ في هذه الدَّعوةِ المباركةِ ، وأدَّوا الواجبَ الذي أمرَهم الله تباركَ وتعالى به حتى جاءتْ فترةٌ مِنَ الرُّسُلِ بعد أنْ رُفِعَ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ؛ وانتشرتِ الجاهليَّةُ في الأرضِ حتى عمَّتها إلا قليلاً ،
كما قالَ عبدُ الله بنُ مسعود رضيَ الله تباركَ وتعالى عنه : " إنَّ الله نظرَ إلى أهلِ الأرضِ عربِهم وعجمِهم فمقتَهم - أي كَرِهَهم وأبغضَهم - إلا بقايا مِنْ أهلِ الكتابِ - يعني الذين بقوا على الحقِّ وعلى ما جاءَ به عيسى صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه - .
يقولُ كذلك عبدُ الله بنُ مسعود : " إنَّ الله نظرَ في قلوبِ العبادِ فما وجدَ أطهرَ مِنْ قلبِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فاختارَه لنبوَّتهِ ولرسالتهِ ، ثم نظرَ في قلوبِ العبادِ فما وجدَ أطهرَ مِنْ قلوبِ أصحابِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فاختارَهم لِصُحْبَتِهِ " .
وإنَّ حديثَنا معكم في هذه اللَّيلةِ التي أسألُ الله تباركَ وتعالى أنْ يجعلَها مباركةً ، وهي في مكانٍ مباركٍ ، وهو بيت مِنْ بيوتِ الله وتعالى ؛ عن شخصٍ مباركٍ ، وهذا الشَّخصُ هو البطلُ الهمام .. السَّيِّد النَّسيب .. الرَّفيع الحسيب .. الشَّهيد السَّعيد .. أخو النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .. وابن عمِّه .. وزوج سيِّدةِ نساءِ العالمين ..وأبو السِّبطينِ .. البطل الغالب
عليّ بن أبي طالب ، رضيَ الله تباركَ وتعالى عنه وأرضاه
هذا الرَّجلُ الذي لا يمكننا أبداً مِنْ خلالِ هذه الدَّقائقِ المعدودةِ التي نجتمعُ فيها في هذا المكانِ المباركِ أنْ نحيطَ بسيرتهِ أو نذكرَ فضائلَه رضيَ الله عنه وأرضاه .
ولكنَّ الأمرَ كما قيلَ : ما لا يُدْرَكُ جُلُّهُ لا يُتْرَكُ كلُّه ، فلا بأسَ أن نعرِّجَ على شيءٍ مِنْ فضائلهِ ، وشيءٍ مِنْ سيرتهِ ، ومعرفةٍ بحياتهِ رضيَ الله تباركَ وتعالى عنه وأرضاه .
عليُّ بنُ أبي طالب بنِ عبدِ المطَّلب بنِ هاشم بنِ عبدِ مناف ، هو ابنُ عمِّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
عليُّ بنُ أبي طالب أمُّه فاطمةُ بنتُ أسد بنِ هاشم .
فأبوه أبو طالب بنُ عبدِ المطَّلب بنِ هاشم ، وأمُّه فاطمةُ بنتُ أسد بنِ هاشم ، فهو هاشميُّ الأبِ هاشميُّ الأمِّ .
ولذلك قيلَ عن عليٍّ وجعفرَ وعقيل إنهم هواشم مِنْ هاشميَّةٍ ومِنْ هاشميٍّ .
أوَّلُ هاشميٍّ يُولَدُ مِنْ هاشيَّة هو جعفرُ بنُ أبي طالب ، ثم عقيل ، ثم عليّ ، رضيَ الله عنهم أجمعين .
عليّ بنُ أبي طالب لما ولدته أمُّه سمَّته على اسمِ أبيها ، وكانَ أبو طالب غائباً ، فسمَّت عليّاً أسداً على اسمِ أبيها أسد .
ولذلك عليٌّ كانَ يقولُ :
أنا الذي سمَّتني أمِّي حيدرة
كليثِ غاباتٍ كَرِيهِ المنظَرَة
يقولُ : أمِّي سمَّتني أسداً .. سمَّتني حيدرة ، ولكنَّ أباه لما رجعَ مِنْ غيبتهِ ورأى هذا الغلامَ
قالوا له : سمَّيناه أسداً .
فقالَ : بل هو عليٌّ .
فسمَّاه أبو طالب عليّاً ، فهو عليٌّ ، وهو أسدٌ ، وهو حيدرة رضيَ الله عنه وأرضاه .
له ثلاثُ كُنَى مشهورة
*- كُنيته الأولى أبو الحسن .. نسبةً إلى ابنهِ الحسن ، فكانَ يقالُ له أبو الحسن لأنَّ الحسنَ أكبرُ أولادهِ .
*- ويُكنى بأبي السِّبطين .. للسَّيِّدينِ الجليلينِ الحسن والحسين سِبْطَيِّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، والسِّبْطُ هو ابنُ البنتِ ، فالحسنُ والحسينُ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم سِبْطَانِ رضيَ الله عنهما ، فكانَ عليٌّ يكنى بهذين الولدينِ ( بأبي السِّبطينِ ) .
*- وكانَ يُكنى بأبي تراب .. وكانتْ هذه الكُنيةُ أحبَّ الكُنى إلى عليٍّ رضيَ الله عنه ، حيثُ إنه كانَ في يومٍ مِنَ الأيامِ نائماً في المسجدِ ؛ فسألَ عنه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في بيتهِ ، سألَ فاطمةَ فقالتْ : قد خرجَ مِنَ البيتِ .
فذهبَ إلى المسجدِ فرآه نائماً على الأرضِ ، وكانتْ أرضُ المسجدِ تراباً ، فنامَ وكانَ التُّرابُ في جنبهِ ، فصارَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يمسحُ التُّرابَ عن عليٍّ ويقولُ له : " قم أبا التُّراب ، قم أبا التُّراب " .
فكانَ عليٌّ رضيَ الله عنه يقولُ : هذه أحبُّ الكُنَى إليَّ .
لأنها جاءتْ مِنْ قِبَلِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم .
رُزِقَ عليٌّ رضيَ الله عنه مِنْ فاطمةَ بأربعةِ أولادٍ ( بالحسن ، والحسين ، وأمّ كلثوم ، وزينب ) ، ولما توفِّيتْ فاطمةُ رضيَ الله عنها تزوَّج عليٌّ بعدَها كثيراً مِنَ النِّساءِ ، وكانَ له كثيرٌ مِنَ الإماءِ كذلك ، و رُزِقَ عليٌّ رضيَ الله عنه باثنين وثلاثين مِنَ الأولادِ ، الذُّكور أربعةَ عشرَ ، والإناث ثماني عشرةَ أنثى ، هؤلاء أولادُ عليٍّ رضيَ الله عنه ، ولكنْ مِنْ فاطمةَ أربعة فقط ( الحسن ، والحسين ، وزينب ، وأمّ كلثوم ) رضيَ الله عنهم أجمعين .
وُلِدَ عليٌّ رضيَ الله عنه قبلَ مبعثِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعشرِ سنين ، وقيل أقلّ ، بثمانٍ ، على كلِّ حالٍ أكثر ما قيلَ عشر سنوات ، وقيلَ ثمان سنوات ، يعني عندما بُعِثَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كانَ لعليٍّ مِنَ العمرِ ثماني سنواتٍ أو عشر سنوات ، وكانَ عليٌّ قد تربَّى في بيتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وذلك أنَّ أبا طالبٍ كانَ قليلَ ذاتِ اليدِ .. كانَ فقيراً .. أبو طالب والد عليٍّ كانَ فقيراً ، فاجتمعَ يوماً النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع عمِّه العبَّاس فقالَ : لو ساعدنا أبا طالب .
فقالَ العبَّاسُ : نعم .
فذهبا إلى أبي طالبٍ فقالا له : نحملُ عنكَ بعضَ المؤونة .
فقالَ : وكيفَ ذلك ؟؟
فقالَ العبَّاسُ : أنا آخذُ منك جعفراً فأربِّيه .
( أصرفُ عليه و أتكفَّل به )
وقالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : و أنا آخذُ عليّاً فأربِّيه لك .
فقالَ أبو طالب : إنْ تركتما لي طالباً فخذوا مَنْ شئتم .
المهم طالب اتركوه .. البِكْر ..
فأخذَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عليّاً ، وأخذَ العبَّاسُ جعفر ، فتربَّى عليٌّ في بيتِ النَّبيِّ منذُ صِغَرِهِ رضيَ الله عنه وأرضاه .. في بيتِ خديجةَ أمِّ المؤمنين ، فنشأ عليٌّ على التَّوحيدِ في هذا البيتِ المباركِ في كَنَفِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وتربيته .
وظلَّ عليٌّ كذلك في بيتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم حتى بُعِثَ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه ، فكانَ أوَّل مَنْ أسلمَ وتابعَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ البشرِ خديجة رضيَ الله عنها .
ثم بعد ذلك عَرَضَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الإسلامَ على عليٍّ - وهو صغيرٌ ، قلنا في الثَّامنة أو العاشرة مِنْ عمرهِ - عَرَضَ عليه الإسلامَ فَقَبِلَهُ عليٌّ رضيَ الله عنه .
كيفَ لا وهو قد تربَّى في هذا البيتِ الكريمِ .. في بيتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم .
وعَرَضَ الإسلامَ على أبي بكر الصِّدِّيق فقبِلَه ، وعَرَضَ الإسلامَ على زيدِ بنِ حارثةَ فقبِلَه ، وعَرَضَ الإسلامَ على بلالِ بنِ الحارثِ فقبِلَه .
فكانتْ خديجةُ أوَّلَ مَنْ أسلمَ مِنَ البشرِ ، وكانَ أبو بكر أوَّلَ مَنْ أسلمَ مِنَ الرِّجالِ ، وكانَ عليٌّ أوَّلَ مَنْ أسلمَ مِنَ الصِّبيةِ ، وكانَ زيدٌ أوَّلَ مَنْ أسلمَ مِنَ الموالي ، وكانَ بلالُ أوَّلَ مَنْ أسلمَ مِنَ العبيدِ .
فأسلمَ عليٌّ رضيَ الله عنه صغيراً ، وتابعَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، ولذلك كانَ البعضُ إذا ذكرَ عليّاً يقولُ كرَّم الله وجهه
لماذا ؟
قالَ لأنه لم يسجدْ لصنمٍ قطُّ رضيَ الله عنه .. فهو رضعَ التَّوحيدَ منذ نعومةِ أظفارهِ .. منذ صغرهِ لا يسمعُ ولا يرى إلا التَّوحيدَ .. لم يرَ الشِّرْكَ في بيتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أبداً .
لما بُعِثَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ظلَّ يدعو إلى الله تباركَ وتعالى في مَكَّةَ ثلاثَ عشرةَ سنةً ، وعليٌّ مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ؛ وإنْ لم يكنْ له ذلك الأثر العظيم مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلا إنه كانَ متابعاً له ، وأشهرُ ما وقعَ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك الوقتِ لما جاءَ أبو ذرٍّ يسألُ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، فسألَ عليّاً عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، فدلَّاه عليٌّ على النَّبيِّ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه .
بعد ثلاثَ عشرةَ سنة مِنَ الدَّعوةِ في مَكَّةَ وتخلَّلتها رحلةُ الطَّائفِ وكيفَ أنَّ أهلَ مَكَّةَ وأهلَ الطَّائفِ صَدُّوا عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلا القليل مِنْ أهلِ مَكَّةَ ممنْ تابعَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند ذلك قرَّر صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه أنْ يهاجرَ إلى المدينةِ ، بعد أنْ بايعَه كثيرٌ ممنْ أهلِ المدينةِ بيعةَ العقبةِ الأولى ثم بيعةَ العقبةِ الثَّانيةِ ، عندها قرَّر الهجرةَ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه ، وأمرَه ربُّه بذلك .
فخرجَ متخفِّياً باللَّيلِ برفقةِ أبي بكر الصِّدِّيق ، وأمرَ عليّاً بأمرينِ اثنينِ :
أمَّا الأمرُ الأوَّلُ : فأمرَه أنْ يبقى في فراشهِ حتى يظنّ الكفَّارُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يخرج مِنْ بيتهِ ، وذلك لما قرَّروا قَتْلَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
والأمرُ الثَّاني : أمرَه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يَرُدَّ الأماناتِ إلى أهلِها ، وهذه مِنْ عجائبِ الأمورِ !! وذلك أنَّ قريشاً كانتْ تقولُ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم : كاذب ، ساحر ، مجنون ، كاهن ، شاعر ، واتهامات كثيرة كانوا يتَّهمون بها النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، ومع هذا لا يضعون أماناتهم إلا عند النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم !!!
بالله عليكم مَنِ المجنون ؟؟؟
مَنِ المجنون ؟؟؟
يقولون عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إنه مجنون ، ثم يضعون أماناتهم عنده !! بل لا يضعونها إلا عنده !!!
صلَّى الله عليه وسلَّم .
ولذلك صدقَ ربُّنا سبحانه وتعالى حينما قالَ : " قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) "سورة الأنعام ، يعلمون والله الذي لا إلهَ إلا هو أنَّ محمَّداً على حقٍّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
ولذلك لما سألَ الأخنسُ بنُ شريق أبا جهلٍ عمروَ بنَ هشام
قالَ له : يا أبا الحكم ، أ محمَّدٌ صادقٌ أمْ كاذبٌ ؟
قالَ أبو جهل الذي قالَ عنه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فرعون هذه الأمَّة ، قالَ : والله إنَّ محمَّداً لصادقٌ ، والله ما كذبَ محمَّدٌ قطُّ .
صلَّى الله عليه وسلَّم .
ومما يدلُّ على أمانتهِ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه أنه لما أرادَ أنْ يهاجرَ ما تركَ الأماناتِ بل أمرَ عليّاً رضيَ الله عنه أنْ يردَّها إلى أهلِها ، أنْ يردَّ الأماناتِ إلى أهلِها ، وهذا يدلُّ على كريمِ خُلُقِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وعلى ثقتهِ بعليٍّ أنه يستطيعَ أنْ يؤدِّيَ مثلَ هذا الأمرِ العظيمِ الذي أمرَه به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وكانَ لعليٍّ مِنَ العمرِ آنذاك إحدى وعشرون سنةً .
بقيَ عليٌّ في مَكَّةَ ، و فدى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بنفسهِ ونامَ في فراشهِ ، و فيهِ وفي أمثالهِ نزلَ قولُ الله تباركَ وتعالى : " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) " سورة البقرة .
هكذا كانَ عليٌّ رضيَ الله عنه وأرضاه .
لعليٍّ رضيَ الله عنه فضائلُ كثيرةٌ ، وكما قلتُ في بدايةِ حديثي إننا لم نجلسْ هذا المجلس لنعدِّدَ فضائلَ عليّ رضيَ الله عنه لأنه سيطولُ بنا المقامُ ، ولنْ نتكلَّم عن أشياءَ أخرى وجوانبَ في حياةِ هذا الإمامِ رضيَ الله عنه وأرضاه ، ولكنْ لا بدَّ مِنَ التَّنبيهِ على بعضِ فضائلهِ رضيَ الله عنه ، وأنْ نمرَّ عليها كما يقالُ مرورَ الكرامِ .
فَمِنْ ذلك أنَّ فضائلَ عليٍّ رضيَ الله عنه يمكنُ تقسيمُها إلى ثلاثةِ أقسامٍ :
*- إلى فضائلَ خاصَّة به .
*- و إلى فضائلَ له مع آلِ بيتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
*- وإلى فضائلَ له مع عامَّةِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم .
*- أمَّا فضائلُه الخاصَّةُ فمنها :
*- أنه في يومِ خيبر لما حاصرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم اليهودَ في خيبر قالَ : " لأعطِيَنَّ الرَّايةَ غداً رجلاً يحبُّ الله ورسولَه ويحبُّه الله ورسولُه " .
فالنَّاسُ كلُّهم تمنَّوا أنْ يكونَ الاختيارُ عليهم ، لا شكَّ هكذا يزكِّيه الله تباركَ وتعالى بقولهِ : " يحبُّ الله ورسولَه " هذا يدلُّ على إيمانهِ ، ثم يُطريهِ بقولهِ : " يحبُّه الله ورسولُه " ، وهو مؤمنٌ تقيٌّ يحبُّ الله ورسولَه ، ثم هو وليٌّ مِنْ أولياءِ الله تباركَ وتعالى فيحبُّه الله ورسولُه .
فلمَّا صلَّى الغداةَ - أي الفجر - صلَّى الله عليه وسلَّم صارَ النَّاسُ يتطاولون برقابِهم ،كلٌّ يُظْهِرُ نفسَه لعلَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يشيرُ إليه ويقولُ : هذا الذي يحبُّ الله ورسولَه ، هذا الذي يحبُّه الله ورسولُه ، فصلَّى الغداةَ - أي الفجر - صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه ، ثم نظرَ في وجوهِ النَّاسِ يبحثُ عن ذلك الشَّخصِ ...
ثم قالَ :أين عليٌّ ؟
وكانَ عليٌّ رضيَ الله عنه في ذلك الوقتِ أصِيبَ بالرَّمَدِ ، ولم يحظرْ إلى الصَّلاةِ بسببِ الرَّمَدِ الذي أصابَ عينيهِ .
فقالوا : يا رسولَ الله ، إنه أرمد يشكو عينيه .
قالَ : " ائتوني به "
فجيءَ بعليٍّ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُقادُ ، ما يرى .. يقادُ مِنْ شِدَّةِ الرَّمَدِ في عينيهِ .. فلمَّا قَرُبَ مِنَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تفلَ مِنْ ريقهِ المباركِ صلَّى الله عليه وسلَّم في عينيهِ فرجعَ يُبصرُ كأنْ لم يُصَبْ رضيَ الله عنه وأرضاهُ .
ثم سلَّمَه الرَّايةَ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه
ثم قالَ : " اغدوا في سبيلِ الله ، لئنْ يهدي الله بكَ رجلاً واحداً خيرٌ لك مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ "
أي مِنَ الإبلِ الحمراءِ ، أو " خيرٌ لكَ مما طلعتْ عليه الشَّمسُ " .
الله أكبرُ ، كلماتٌ جليلاتٌ يقولُها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعليّ بنِ أبي طالب رضيَ الله عنه ، فأخذَ الرَّايةَ ، وفتحَ الله على يديهِ .
وسيأتي الكلامُ عن ذلك عند كلامِنا عن شجاعةِ عليٍّ رضيَ الله عنه وأرضاه .
*- مِنْ فضائلهِ الخاصَّةِ :
*-أنه قالَ يوماً ، أي عليّ رضيَ الله عنه :والذي فَلَقَ الحبَّ وبَرَأ النَّسَمَةَ إنه لعهدُ النَّبيِّ الأمِّيِّ ، لا يحبُّني إلا مؤمنٌ ، ولا يُبغضُني إلا منافقٌ .
فنُشهدُ الله على حبِّه رضيَ الله عنه وأرضاه " لا يحبُّني إلا مؤمنٌ ، ولا يُبغضُني إلا منافقٌ " .
فحبُّ عليٍّ مِنَ الإيمانِ و بُغضُهُ مِنَ النِّفاقِ ؛ رضيَ الله عنه وأرضاه .
*- ولما خرجَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى تبوك في السَّنةِ التَّاسعةِ مِنَ الهجرةِ تركَ عليّاً يرعى أهلَ بيتهِ ؛ وذلك أنه لم يُبقِ في المدينةِ أحداً ، إلا المنافقين ، والمعذورين كالمرضى ، والفقراء ، ومعهم النِّساء والصِّبيان ، هؤلاء الذين بقوا في المدينةِ .
فأمرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عليّاً أنْ يبقى في المدينةِ ليرعى شؤونَ أهلهِ ، فتكلَّم بعضُ المنافقين في عليٍّ
وقالوا: ما تركَه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلا استثقالاً .
أي لا يريدُه معه ، فتركَه لأجلِ ذلك .
فحزنَ عليٌّ لما سمعَ مِنْ هذا الكلامِ فلحقَ بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم خارجَ المدينةِ ؛ فأدركَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ،
فقالَ : " يا رسولَ الله ، إنَّ النَّاسَ يقولون إنك إنما تركتني استثقالاً " ؟؟!!
فقالَ له النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : " ألا ترضى أنْ تكونَ منِّي بمنزلةِ هارونَ مِنْ موسى ، إلا إنه لا نبيَّ بعدي " .
الله أكبر .. يطيِّبُ النَّبيُّ خاطرَه صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه .
موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما خرجَ إلى ميقاتِ ربِّه قالَ لهارونَ : اخلفني في أهلي ، ولم يكنْ هذا استثقالاً ولا نقصاً لهارونَ ، فكذلك أنا يا عليُّ إذا تركتُك وقلتُ لك اخلفني في أهلي فليسَ هذا استثقالاً : " أنتَ منِّي بمنزلةِ هارونَ مِنْ موسى " ، ولما ظنَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ البعضَ قد يظنُّ أنَّ عليّاً نبيٌّ كما كانَ هارونُ نبيّاً قالَ : " إلا إنه لا نبيَّ بعدي " .
*- وكذلك جاءَ في الحديثِ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قالَ يوماً لأصحابهِ :" مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه " .
" مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه " ، هكذا يقولُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مبيِّناً منزلةَ هذا الرَّجلِ رضيَ الله عنه وأرضاه .
*- أمَّا فضائلُه مع عامَّةِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم
*- فقد كانَ النَّبيُّ يوماً صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه على حراء ، لما كانَ في مَكَّةَ ، فاهتزَّ حِرَاءُ ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : " اسكنْ حِرَاءُ ، فإنما عليكَ نبيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شهيدٌ " .
وكانَ على حِرَاء في ذلك اليوم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة ، والزُّبير ، وسعد ، وأبو عبيدة .
" اسكنْ حراء ، فإنما عليكَ نبيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شهيدٌ "
يخبرُ أنَّ هؤلاء لا يخرجون مِنْ هؤلاء الثَّلاثةِ ، أمَّا النَّبيُّ فهو محمَّد ، وأمَّا الصِّدِّيقُ فهو أبو بكر ، وأمَّا الشُّهداءُ فأصحابُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
فالقصدُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذكرَ هذه الفضيلةَ العظيمةَ لعليٍّ رضيَ الله تباركَ وتعالى عنه .
*- وجاءَ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قالَ : " عشرةٌ في الجنَّةِ ، أبو بكر في الجنَّة ، وعمر في الجنَّة ، وعثمان في الجنَّة ، وعليّ في الجنَّة ، وطلحة في الجنَّة ، والزُّبير في الجنَّة ، وعبد الرَّحمن بن عوف في الجنَّة ، وسعد في الجنَّة ، وأبو عبيدة في الجنَّة ، وسعيد في الجنَّة " .
هكذا يخبرُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابهِ أنهم مِنْ أهلِ الجنَّة ومنهم عليٌّ رضيَ الله تباركَ وتعالى عنه وأرضاه .
*- في عليٍّ وأصحابهِ نزلَ قولُ الله تباركَ وتعالى : " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ... " أي مِنَ الإيمانِ والتَّقوى والدِّينِ والخيرِ والمحبَّةِ " فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا...(18) " سورة الفتح .
وكانَ عليٌّ رضيَ الله عنه مِنْ أئمَّتِهم بل هو كاتبُ الصُّلْحِ بين النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وسهيل بنِ عمرو في ذلك اليومِ العظيمِ يومِ الحديبيةِ .
*- وفيه وفي أمثالهِ قالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : " خيرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثم الذين يَلُونهم ، ثم الذين يَلُونهم " .
وعليٌّ رضيَ الله عنه مِنْ ساداتِ القرنِ الأوَّل الذي أخبرَ عنه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
وكما قلتُ فضائل عليٍّ رضيَ الله عنه كثيرة جدّاً .
*-وقد قالَ الإمامُ أحمدُ رحمه الله تباركَ وتعالى : ما جاءَ لأحدٍ مِنْ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ الفضائلِ ما جاءَ لعليٍّ رضيَ الله عنه عنه وأرضاه .
ففضائلُه كثيرةٌ جدّاً رضيَ الله عنه وأرضاه .