حمد
لله الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، فجعله شاهدًا
ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وجعل فيه أسوة
حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا. اللهم صل وسلم
وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
النسب والمولد والنشأة
نسب النبي صلى الله عليه وسلم
وجزء
آخر كثر فيه الاختلاف، حتى جاوز حد الجمع والائتلاف، وهو الجزء الذي يبدأ
بعد عدنان وينتهي إلى إبراهيم عليه السلام فقد توقف فيه قوم، وقالوا: لا
يجوز سرده، بينما جوزه آخرون وساقوه. ثم اختلف هؤلا المجوزون في عدد
الآباء وأسمائهم، فاشتد اختلافهم وكثرت أقوالهم حتى جاوزت ثلاثين قولًا،
إلا أن الجميع متفقون على أن عدنان من صريح ولد إسماعيل عليه السلام.
أما
الجزء الثالث فهو يبدأ من بعد إبراهيم عليه السلام وينتهي إلى آدم عليه
السلام، وجل الاعتماد فيه على نقل أهل الكتاب، وعندهم فيه من بعض تفاصـيل
الأعمـار وغيرهـا ما لا نشك في بطلانه، بينما نتوقف في البقية الباقية.
وفيما يلى الأجزاء الثلاثة من نسبه الزكى صلى الله عليه وسلم بالترتيب :
الجزء
الأول : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ـ واسمه شَيْبَة ـ بن هاشم ـ
واسمه عمرو ـ بن عبد مناف ـ واسمه المغيرة ـ بن قُصَىّ ـ واسمه زيد ـ بن
كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فِهْر ـ وهو الملقب بقريش وإليه
تنتسب القبيلة ـ بن مالك بن النَّضْر ـ واسمه قيس ـ بن كِنَانة بن
خُزَيْمَة بن مُدْرِكة ـ واسمه عامـر ـ بن إلياس بن مُضَر بن نِزَار بن
مَعَدّ بن عدنان.
الجزء الثانى : ما فوق عدنان، وعدنان
هو ابن أُدَد بن الهَمَيْسَع بن سلامان بن عَوْص بن بوز بن قموال بن أبي
بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن
ماخى بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حَمْدان بن سنبر بن يثربى بن
يحزن بن يلحن بن أرعوى بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد ابن أيهام بن
مقصر بن ناحث بن زارح بن سمى بن مزى بن عوضة بن عرام بن قيدار ابن إسماعيل
بن إيراهيم عليهما السلام.
الجزء الثالث : ما فوق
إبراهيم عليه السلام، وهو ابن تارَح ـ واسمه آزر ـ بن ناحور بن ساروع ـ أو
ساروغ ـ بن رَاعُو بن فَالَخ بن عابر بن شَالَخ بن أرْفَخْشَد بن سام بن
نوح عليه السلام بن لامك بن مَتوشَلخَ بن أَخْنُوخ ـ يقال : هو إدريس
النبي عليه السلام ـ بن يَرْد بن مَهْلائيل بن قينان بن أنُوش بن شِيث بن
آدم ـ عليهما السلام.
الأسرة النبوية :
تعرف أسرته صلى الله عليه وسلم بالأسرة الهاشمية ـ نسبة إلى جده هاشم بن عبد مناف ـ وإذن فلنذكر شيئًا من أحوال هاشم ومن بعده :
1 ـ هاشم :
قد
أسلفنا أن هاشمًا هو الذي تولى السقاية والرفادة من بني عبد مناف حين
تصالح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار على اقتسام المناصب فيما بينهما، وكان
هاشم موسرًا ذا شرف كبير، وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وكان اسمه
عمرو فما سمى هاشمًا إلا لهشمه الخبز، وهو أول من سن الرحلتين لقريش، رحلة
الشتاء والصيف، وفيه يقول الشاعر :
عمرو الذي هَشَمَ الثريدَ لقومه ** قَــومٍ بمـكــة مُسِْنتِيــن عِجَــافِ
سُنَّتْ إليه الرحلتان كلاهـمــا ** سَفَرُ الشتاء ورحلة الأصياف
ومن
حديثه أنه خرج إلى الشام تاجرًا، فلما قدم المدينة تزوج سلمى بنت عمرو أحد
بني عدى بن النجار وأقام عندها، ثم خرج إلى الشام ـ وهي عند أهلها قد حملت
بعبد المطلب ـ فمات هاشم بغزة من أرض فلسطين، وولدت امرأته سلمى عبد
المطلب سنة 497 م، وسمته شيبة؛ لشيبة كانت في رأسه، وجعلت تربيه في بيت
أبيها في يثرب، ولم يشعر به أحد من أسرتـه بمكـة، وكان لهاشم أربعة بنين
وهم: أسد وأبو صيفي ونضلة وعبد المطلب. وخمس بنات وهن: الشفاء،
وخالدة، وضعيفة، ورقية، وجنة.
2 ـ عبـد المطلب :
قد
علمنا مما سبق أن السقاية والرفادة بعد هاشم صارت إلى أخيه المطلب بن عبد
مناف [وكان شريفًا مطاعًا ذا فضل في قومه، كانت قريش تسميه الفياض
لسخائه] لما صار شيبة ـ عبد المطلب ـ وصيفًا أو فوق ذلك ابن سبع سنين أو
ثماني سنين سمع به المطلب. فرحل في طلبه، فلما رآه فاضت عيناه، وضمه،
وأردفه على راحلته فامتنع حتى تأذن له أمه، فسألها المطلب أن ترسله معه،
فامتنعت، فقال : إنما يمضى إلى ملك أبيه وإلى حرم الله فأذنت له، فقدم
به مكة مردفه على بعيره، فقال الناس: هذا عبد المطلب، فقال: ويحكم،
إنما هو ابن أخى هاشم، فأقام عنده حتى ترعرع، ثم إن المطلب هلك بـ
[دمان] من أرض اليمن، فولى بعده عبد المطلب، فأقام لقومه ما كان آباؤه
يقيمون لقومهم،وشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم
خطره فيهم.
ولما مات المطلب وثب نوفل على أركاح بد المطلب
فغصبه إياها، فسأل رجالًا من قريش النصرة على عمه، فقالوا: لا ندخل بينك
وبين عمك، فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياتًا يستنجدهم، فسار خاله أبو
سعد بن عدى في ثمانين راكبًا، حتى نزل بالأبطح من مكة، فتلقاه عبد المطلب،
فقال: المنزل يا خال، فقال: لا والله حتى ألقى نوفلًا، ثم أقبل فوقف
على نوفل، وهو جالس في الحجر مع مشايخ قريش، فسل أبو سعد سيفه وقال: ورب
البيت، لئن لم ترد على ابن أختى أركاحه لأمكنن منك هذا السيف، فقال:
رددتها عليه، فأشهد عليه مشايخ قريش، ثم نزل على عبد المطلب، فأقام عنده
ثلاثًا، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة. فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس
بن عبد مناف على بني هاشم. ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب
قالوا: نحن ولدناه كما ولدتموه، فنحن أحق بنصره ـ وذلك أن أم عبد مناف
منهم ـ فدخلوا دار الندوة وحالفوا بني هاشم على بني عبد شمس ونوفل، وهذا
الحلف هو الذي صار سببًا لفتح مكة كما سيأتى.
ومن أهم ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت شيئان:
حفر بئر زمزم ووقعة الفيل
وخلاصة
الأول: أنه أمر في المنام بحفر زمزم ووصف له موضعها، فقام يحفر، فوجد
فيه الأشياء التي دفنها الجراهمة حين لجأوا إلى الجلاء، أي السيوف والدروع
والغزالين من الذهب، فضرب الأسياف بابًا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين
صفائح من ذهب، وأقام سقاية زمزم للحجاج.
ولما بدت بئر زمزم
نازعت قريش عبد المطلب، وقالوا له : أشركنا.قال: ما أنا بفاعل، هذا
أمر خصصت به، فلم يتركوه حتى خرجوا به للمحاكمة إلى كاهنة بني سعد
هُذَيْم، وكانت بأشراف الشام، فلما كانوا في الطريق، ونفد الماء سقى الله
عبد المطلب مطرًا، م ينزل عليهم قطرة، فعرفوا تخصيص عبد المطلب بزمزم
ورجعـوا، وحينئذ نذر عبد المطلب لئن آتاه الله عشرة أبناء، وبلغوا أن
يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة. وخلاصة
الثانى: أن أبرهة بن الصباح الحبشى، النائب العام عن النجاشى على اليمن،
لما رأي العرب يحجون الكعبة بني كنيسة كبيرة بصنعاء، وأراد أن يصرف حج
العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلًا فلطخ قبلتها
بالعذرة. ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظه، وسار بجيش عرمرم ـ عدده ستون
ألف جندى ـ إلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلا من أكبر الفيلة، وكان
في الجيش 9 فيلة أو 13 فيلا، وواصل سيره حتى بلغ المُغَمَّس، وهناك عبأ
جيشه وهيأ فيله، وتهيأ لدخول مكة، فلما كان في وادى مُحَسِّر بين المزدلفة
ومنى برك الفيل، ولم يقم ليقدم إلى الكعبة، وكانوا كلما وجهوه إلى الجنوب
أو الشمال أو الشرق يقوم يهرول، وإذا صرفوه إلى الكعبة برك، فبيناهم كذلك
إذ أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف
مأكول. وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر ثلاثة أحجار؛
حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، لا تصيب منهم أحدًا إلا صارت
تتقطع أعضاؤه وهلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض،
فتساقطوا بكل طريق وهلكوا على كل منهل، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء
تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره
عن قلبه ثم هلك.
وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الشعاب،
وتحرزوا في رءوس الجبال خوفًا على أنفسهم من معرة الجيش، فلما نزل بالجيش
ما نزل رجعوا إلى بيوتهم آمنين.
وكانت هذه الوقعة في شهر
المحرم قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين يومًا أو بخمسة وخمسين
يومًا ـ عند الأكثر ـ وهو يطابق أواخر فبراير أو أوائل مارس سنة 571 م،
وكانت تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته؛ لأنّا حين ننظر إلى بيت المقدس نرى
أن المشركين من أعداء الله استولوا على هذه القبلة مرتين بينما كان أهلها
مسلمين، كما وقع لبُخْتُنَصَّر سنة 587 ق.م، والرومان سنة 70 م، ولكن لم
يتم استيلاء نصارى الحبشة على الكعبة وهم المسلمون إذ ذاك، وأهل الكعبة
كانوا مشركين.
وقد وقعت هذه الوقعة في الظروف التي يبلغ
نبؤها إلى معظم المعمورة المتحضرة إذ ذاك. فالحبشة كانت لها صلة قوية
بالرومان، والفرس لا يزالون لهم بالمرصاد، يترقبون ما نزل بالرومان
وحلفائهم؛ ولذلك سرعان ما جاءت الفرس إلى اليمن بعد هذه الوقعة، وهاتان
الدولتان كانتا تمثلان العالم المتحضر في ذلك الوقت. فهذه الوقعة لفتت
أنظار العالم ودلته على شرف بيت الله، وأنه هو الذي اصطفاه الله للتقديس،
فإذن لو قام أحد من أهله بدعوى النبوة كان ذلك هو عين ما تقتضيه هذه
الوقعة، وكان تفسيرًا للحكمة الخفية التي كانت في نصرة الله للمشركين ضد
أهل الإيمان بطريق يفوق عالم الأسباب.
وكان لعبد المطلب
عشرة بنين، وهم: الحارث، والزبير، وأبو طالب، وعبد الله، وحمزة، وأبو
لهب، والغَيْدَاق، والمُقَوِّم، وضِرَار، والعباس. وقيل: كانوا أحد
عشر، فزادوا ولدًا اسمه: قُثَم، وقيل : كانوا ثلاثة عشر، فزادوا:
عبد الكعبة وحَجْلًا، وقيل: إن عبد الكعبة هو المقوم، وحجلا هو الغيداق،
ولم يكن من أولاده رجل اسمه قثم، وأما البنات فست وهن : أم الحكيم ـ وهي
البيضاء ـ وبَرَّة، وعاتكة، وصفية، وأرْوَى، وأميمة.
3ـ عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أمـه
فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يَقَظَة بـن مـرة، وكـان عبد
الله أحسن أولاد عبد المطلب وأعفهم وأحبهم إليه، وهو الذبيح؛ وذلك أن عبد
المطلب لمـا تم أبناؤه عشرة، وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه،
فقيل : إنه أقـرع بينهم أيهم ينـحـر ؟ فطـارت القرعــة على عـبد الله،
وكــان أحـب النـاس إليه.فقال:اللهم هو أو مائة من الإبل.ثم أقرع
بينه وبين الإبل فطارت القرعة على المائة من الإبل، وقيل:إنه كتب
أسماءهم في القداح،وأعطاها قيم هبل، فضرب القداح فخرج القدح على عبد الله،
فأخذه عبد المطلب، وأخذ الشفرة،ثم أقبل به إلى الكعبة ليذبحه،فمنعته
قريش،ولاسيما أخواله من بني مخزوم وأخوه أبو طالب. فقال عبد المطلب :
فكيف أصنع بنذري؟ فأشاروا عليه أن يأتى عرافة فيستأمرها، فأتاها، فأمرت
أن يضرب القداح على عبد الله وعلى عشر من الإبل، فإن خرجت على عبد الله
يزيد عشرًا من الإبل حتى يرضى ربه، فإن خرجت على الإبل نحرها، فرجع وأقرع
بين عبد الله وبين عشر من الإبل، فوقعت القرعة على عبد الله، فلم يزل يزيد
من الإبل عشرًا عشرًا ولا تقع القرعة إلا عليه إلى أن بلغت الإبل مائة
فوقعت القرعة عليها، فنحرت ثم تركت، لا يرد عنها إنسان ولا سبع، وكانت
الدية في قريش وفي العرب عشرًا من الإبل، فجرت بعد هذه الوقعة مائة من
الإبل، وأقرها الإسلام، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
[أنا ابن الذبيحين] يعنى إسماعيل، وأباه عبد الله.
واختار
عبد المطلب لولده عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهي
يومئذ تعد أفضل امرأة في قريش نسبًا وموضعًا، وأبوها سيد بني زهرة نسبًا
وشرفًا، فزوجه بها، فبني بها عبد الله في مكة، وبعد قليل أرسله عبد المطلب
إلى المدينة يمتار لهم تمرًا، فمات بها، وقيل : بل خرج تاجرًا إلى
الشام، فأقبل في عير قريش، فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها، ودفن في دار
النابغة الجعدى، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، وكانت وفاته قبل أن يولد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وبه يقول أكثر المؤرخين، وقيل : بل توفي بعد
مولده بشهرين أو أكثر. ولما بلغ نعيه إلى مكة رثته آمنة بأروع المراثى،
قالت :
عَفَا جانبُ البطحاءِ من ابن هاشم ** وجاور لَحْدًا خارجـًا في الغَـمَاغِـــم
دَعَتْـه المنــايا دعــوة فأجـابـــهـا ** وما تركتْ في الناس مثل ابن هاشـم
عشيـة راحـوا يحملــون سريـره ** تَعَاوَرَهُ أصـحـابــه في التزاحــــم
فإن تـك غـالتـه المنـايا ورَيْبَهـــا ** فقـد كـان مِعْطــاءً كـثير التراحم
وجميع
ما خلفه عبد الله خمسة أجمال، وقطعة غنم، وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها
أم أيمن، وهي حاضنـة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يتبع.................................... المولد وأربعون عامًا قبل النبوة
المولـــد:
ولـد
سيـد المرسلـين صلى الله عليه وسلم بشـعب بني هاشـم بمكـة في صبيحـة يــوم
الاثنين التاسع مـن شـهر ربيـع الأول، لأول عـام مـن حادثـة الفيـل،
ولأربعـين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان، ويوافق ذلك عشرين أو اثنين
وعشرين من شهر أبريل سنة 571 م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان ـ
المنصورفورى ـ رحمه اللـه.
وروى ابــن سعــد أن أم رســول الله
صلى الله عليه وسلم قالــت : لمــا ولـدتــه خــرج مــن فرجـى نــور
أضــاءت لـه قصـور الشام. وروى أحمد والدارمى وغيرهمـا قريبـًا مـن
ذلك.
وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع
عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت
الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك الطبرى والبيهقى وغيرهما.
وليس له إسناد ثابت، ولم يشهد له تاريخ تلك الأمم مع قوة دواعى التسجيل.
ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده،فجاء
مستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له. واختار له اسم محمد ـ وهذا
الاسم لم يكن معروفًا في العرب ـ وخَتَنَه يوم سابعه كما كان العرب
يفعلون.
وأول من أرضعته من المراضع ـ وذلك بعد أمه صلى الله
عليه وسلم بأسبوع ـ ثُوَيْبَة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له:
مَسْرُوح، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة
بن عبد الأسد المخزومي.
في بني سعد :
وكانت
العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم ابتعادًا لهم
عن أمراض الحواضر؛ ولتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربى
في مهدهم، فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم المراضع،
واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر، وهي حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن
الحارث، وزوجها الحارث ابن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة.
وإخوته
صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة : عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت
الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث [وهي الشيماء؛ لقب غلب على اسمها]
وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد
المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمه حمزة بن عبد المطلب
مسترضعًا في بني سعد بن بكر، فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
يومًا وهو عند أمه حليمة،فكان حمزة رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
جهتين، من جهة ثويبة ومن جهة السعدية.
ورأت حليمة من بركته صلى الله عليه وسلم ما قضت منه العجب، ولنتركها تروى ذلك مفصلًا :
قال
ابن إسحاق : كانت حليمة تحدث : أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها
صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء. قالت : وذلك في
سنة شهباء لم تبق لنا شيئًا، قالت : فخرجت على أتان لى قمراء، ومعنا
شارف لنا، والله ما تَبِضّ ُبقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي
معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديى ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه،
ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتانى تلك، فلقد أذَمَّتْ بالركب
حتى شق ذلك عليهم، ضعفًا وعجفًا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا
امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل
لها: إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول:
يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت
معي إلا أخذت رضيعًا غيرى، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى: والله، إنى
لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم
فلآخذنه. قال : لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة.
قالت: فذهبت إليه وأخذته،وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره،
قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلى، فلما وضعته في حجرى أقبل عليه ثديأي
بما شاء من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه أخوه حتى روى، ثم ناما، وما كنا
ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منها ما
شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول
صاحبى حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة، قالت:
فقلت: والله إنى لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبت أنا أتانى، وحملته
عليها معى، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شىء من حمرهم، حتى إن
صواحبى ليقلن لى: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك! أرْبِعى علينا، أليست هذه
أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي هي،
فيقلن: والله إن لها شأنًا، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد،
وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمى تروح علىَّ حين قدمنا
به معنا شباعًا لُبَّنـًا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا
يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم،
اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة
لبن، وتروح غنمى شباعًا لبنًا. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير
حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه
حتى كان غلامًا جفرًا. قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه
فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابني عندي
حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا.
شق الصدر :
وهكذا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى بني سعد، حتى إذا كان بعده بأشهر على قول ابن إسحاق، وفي السنة
الرابعة من مولده على قول المحققين وقع حادث شق صدره، روى مسلم عن أنس:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه
فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ
الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه ـ أي جمعه وضم
بعضه إلى بعض ـ ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعنى
ظئره ـ فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو مُنْتَقِعُ اللون ـ أي
متغير اللون ـ قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره. إلى أمه الحنون :
وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين.
ورأت
آمنة ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكة قاطعة
رحلة تبلغ نحو خمسمائة كيلو متر ومعها ولدها اليتيم ـ محمد صلى الله عليه
وسلم ـ وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرًا ثم قفلت، وبينما
هي راجعة إذ لحقها المرض في أوائل الطريق، ثم اشتد حتى ماتت بالأبْوَاء
بين مكة والمدينة.
إلى جده العطوف :
وعاد به عبد
المطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم الذي
أصيب بمصاب جديد نَكَأ الجروح القديمة، فَرَقَّ عليه رقة لم يرقها على أحد
من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره على أولاده، قال ابن
هشام: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول
فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له، فكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يأتى وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه
ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منهم: دعوا ابني هذا، فوالله
إن له لشأنًا، ثم يجلس معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه
يصنع.
ولثمانى سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه
وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة، ورأي قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى
عمه أبي طالب شقيق أبيه.
إلى عمه الشفيق :
ونهض أبو
طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده وقدمه عليهم واختصه بفضل
احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه، ويبسط عليه حمايته، ويصادق
ويخاصم من أجله، وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها.
يستسقى الغمام بوجهه :
أخرج
ابن عساكر عن جَلْهُمَة بن عُرْفُطَة قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت
قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهَلُمَّ فاستسق، فخرج
أبو طالب ومعه غلام، كأنه شمس دُجُنَّة، تجلت عنه سحابة قَتْمَاء، حوله
أُغَيْلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة،ولاذ بأضبعه الغلام، وما
في السماء قَزَعَة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغْدَوْدَق،
وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي، وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال:
وأبيضَ يُستسقى الغَمَام بوجهه ** ثِمالُ اليتامى عِصْمَةٌ للأرامل
بَحِيرَى الراهب :
ولما
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتى عشرة سنة ـ قيل: وشهرين وعشرة
أيام ـ ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام، حتى وصل إلى بُصْرَى ـ وهي
معدودة من الشام، وقَصَبَة لحُورَان، وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد
العربية التي كانت تحت حكم الرومان. وكان في هذا البلد راهب عرف
بَبحِيرَى، واسمه ـ فيما يقال: جرجيس، فلما نزل الركب خرج إليهم، وكان
لا يخرج إليهم قبل ذلك، فجعل يتخلّلهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا
يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له [أبو طالب و] أشياخ قريش:
[و] ما علمك [بذلك]؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق
حجر ولا شجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة
أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، [وإنا نجده في كتبنا]، ثم أكرمهم
بالضيافة، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام؛ خوفًا عليه من
الروم واليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة.
حرب الفِجَار :
وفي
السنة العشرين من عمره صلى الله عليه وسلم وقعت في سوق عُكاظ حرب بين قريش
ـ ومعهم كنانة ـ وبين قَيْس عَيْلان، تعرف بحرب الفِجَار وسببها: أن أحد
بني كنانة، واسمه البَرَّاض، اغتال ثلاثة رجال من قيس عيلان، ووصل الخبر
إلى عكاظ فثار الطرفان، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية؛ لمكانته
فيهم سنا وشرفًا، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان
في وسط النهار كادت الدائرة تدور على قيس. ثم تداعى بعض قريش إلى الصلح
على أن يحصوا قتلى الفريقين، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد.
فاصطلحوا على ذلك، ووضعوا الحرب، وهدموا ما كان بينهم من العداوة والشر.
وسميت بحرب الفجار؛ لانتهاك حرمة الشهر الحرام فيها، وقد حضر هذه الحرب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينبل على عمومته؛ أي يجهز لهم النبل
للرمي.
حلف الفضول :
وعلى أثر هذه الحرب وقع حلف الفضول
في ذى القعدة في شهر حرام تداعت إليه قبائل من قريش: بنو هاشم، وبنو
المطلب،وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار
عبد الله بن جُدْعان التيمى؛ لسنِّه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا
يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا
على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة: (لقد شهدت في دار عبد الله
بن جدعان حلفًا ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام
لأجبت).
وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت
العصبية تثيرها، ويقال في سبب هذا الحلف: إن رجلًا من زُبَيْد قدم مكة
ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمى، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه
الأحلاف عبد الدار ومخزومًا، وجُمَحًا وسَهْمًا وعَدِيّا فلم يكترثوا له،
فعلا جبل أبي قُبَيْس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعًا صوته، فمشى في
ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك؟ حتى اجتمع الذين مضى
ذكرهم في حلف الفضول، فعقدوا الحلف ثم قاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا
منه حق الزبيدي.
حياة الكدح :
ولم يكن له صلى الله عليه
وسلم عمل معين في أول شبابه، إلا أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنمًا،
رعاها في بني سعد، وفي مكة لأهلها على قراريط، ويبدو أنه انتقل إلى عمل
التجارة حين شب،فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب المخزومي
فكان خير شريك له، لا يدارى ولا يمارى، وجاءه يوم الفتح فرحب به، وقال:
مرحبًا بأخي وشريكي. .................منقول.................هذا والله أعلم