كنت أتهيأ للانفصال بعد خمس سنوات عجاف مع زوج لا يعرف من معاملة النساء ولو الشيء القليل، ليس بيني وبينه أدني تواصل فبوصلتي لا تشير إلى اتجاهاته ونوافذ القلب جميعها مُوصدة أمام جفاف مشاعره وخشونة عباراته فهو لا يتكلم إلا ليأمر ويُنهي، وإذا فتح حواراً ينهيه بمشادة وصوت نشاز يمطرني خلاله بكل نعوت التعالي فهو لا ينسى أبداً الفارق الكبير بين عائلتي وعائلته فأنا من عائلة أرقى وأغنى، وتحصيلي الدراسي فاق شهادته الجامعية.
تجرعت غصة البعد وانزواء العاطفة أنتظر أن تزورني البهجة ولو في المواسم وكنت كلما انفجر بركان غضبي ألوذ ببيت أبي فيعيدني إليه بعد أن تمطرني أمي بنصائحها التي لا تمل منها بأن البيت تعمره الزوجة الحنونة وتغزل سعادته بيديها يوماً بعد يوم مُنشدةً في أذني تراتيل الصبر وأهازيج الحكمة بأني من سأغير منه بقربي وفهمي.وأني من بيديها مفتاح قلبه وأني وأني......
كلمات لا تجد بعقل أثقله البُعد والتجافي أي صدى، ولم يكن يقف بيني وبين قراري بالطلاق ويحملني على الانهزام راضخة ًسوى تحرك طفله بأحشائي ولكن وفي إحدى مرات التلاسن بيننا طلبت منه الطلاق وأصررت عليه فتفاجأ بطلبي وتغير وجهه وقال لي بصوت خافت على غير عادته: فكري قبل أن تقولي كلمة مثل هذه وغادر البيت.
أخذت القرار ولن يثنيني عنه أحد ولن تفلح نصائح أمي ولا صفعات أبي لن أعود.
لن أعيش مع رجل مثل هذا ويضيع عمري أناطح الصخر.
مرت الساعات ثقيلة وأثناء غرقي في بحر أفكاري سمعت طرقا متلاحقا على باب شقتي وعندما فتحت وجدتها جارتي الجديدة التي سكنت منذ شهور تستغيثني ملهوفة وباكية فطفلها مريض بالحمى وحرارته في تصاعد مستمر، ولا تعرف ماذا تفعل، هرعت إلى الهاتف وطلبت لها سيارة الإسعاف فأتت مسرعة حاملةً طفلها وبت ليلة قلقة حتى أصبح الصباح فذهبت إلى المستشفى الذي يرقد بها الطفل فإذا به يتماثل للشفاء وعلى شفتيه الشاحبة طيف ابتسامة اقتربت منه باسمة وقلت له: حمدا لله على سلامتك وداعبته سائلة عن اسمه فأخبرني باسمه كاملا وكان ممسكا بلعبته فقلت له: من أحضر لك هذه اللعبة الجميلة قال: بابا مهندس وهو من صنع لي هذه السيارة. وعندما سألته: وأين بابا؟ قال بكل براءة وثقة: "بابا جاي في العيد"!!
وأخذ يتحدث كثيراً عن اللعب التي أتى بها والده آخذا الكثير كما يبدو من عقله الباطن وخياله المترع الذي يختزن بكل ما يتمناه، وعندها نظرت متسائلة إلى أمه وجدتها دامعة العينين شاردة وكأنها تتجرع ذكرى أياما ليست ببعيدة وراحت تحكي لي عن قصتها وكيف أنها مطلقة منذ أعوام قليلة بعد أن أذاقت زوجها من حممها وبراكينها الشيء الكثير وكيف أنها أسقته تعاليا وكبرا حتى اضطرته إلى تطليقها ثأرا لكرامته وتركها ورحل لا تعرف أين هو، والذي يحزنها أنها اكتشفت بعد طلاقها أنها تحمل في أحشائها جنينا منه وهو الآن لا يعرف أن له طفل يسأل عنه وينتظر قدومه وحنانه، تحكي وهي تعتصر ألما: تزوج كل إخوتي وماتت أمي وأعيش مع أبي الطاعن في السن يكاد يصم آذاني صرير الندم فقد كان زوجي حنونا طيبا ولكني لم أترك له أي مسافة يمر من خلالها فتأبط كبرياءه ورحل بلا رجعة وأنا الآن أحاول العثور على عنوانه في الخارج لأرجوه أن يعود!
غادرت المستشفى تاركة الأم الحزينة، وتركت طفلها محتضناً لعبته التي جاء بها أبيه كما صور له عقله الصغير المشتاق لحضن أبيه وحنانه والذي حرمه منه تسرع أم لم تعي معنى مسؤولية الأسرة وقيمتها.
وكأن الله قد بعث لي بهذا الطفل في تلك الليلة التي انفردت بها بشيطان نفسي لأخرب بيتي وأحرم طفلي القادم من أبيه ومن بيته حتى لو كان هذا البيت ينقصه بعض الأشياء وهل أنا من اكتملت صفاتي وتعددت ميزاتي؟!
ما هذا الغلو في الكِبر وهذا التماهي كلنا بشر وكلنا عيوب وبدل أن أتخلى فلماذا لا أبادر بتغيير نفسي وأتواضع لزوجي، ورحت أتذكر نصائح أمي ووجدت عقلي يفتح لها نافذة وإذا بالنافذة تتسع أكثر وأكثر ويدخل القلب فيذكرني بميزات زوجي العديدة فهو كريم جدا لدرجة الإسراف ومرح يمتلئ وجهه بالبِشر كلما رآني جميلة هادئة واعترفت لنفسي بأني من أبدأ، ففي كثير من الأحيان أفتعل المشكلات وأعاند وأتشبث برأيي.
أراحني هذا الحوار قمت فتوضأت وصليت ركعتين أستغفر فيهم ربي وأطلب منه أن يهديني نفساً صافية صبورة حليمة تُؤثِر بيتها على نفسها متخلية عن الأنانية والكبر متخففة من العناد وعندما انتهيت شعرت بقشعريرة الطمأنينة تسري بأوصالي وتستقر بقلبي.
فأسرعت إلى هاتفي وبدأت كتابة الرسالة.. زوجي الحبيب: اشتقت إليك.. أنتظر عيدي بقدومك، فما هي إلا ساعاتٌ قليلة، والباب يطرق طرقة أعرفها جيداً.
عزيزتي:
قرارات مصيرية نأخذها في غيبة من العقل قد تقذفنا في يم الندم ولا نعرف كيف الخروج.