البــركـــــــان
بقلم / أحمد كامل احمد
أرخي الليل سدوله ، وخيم سواده علي كل شيء وسكنت كل المخلوقات ، إلا من عواء ذئب متقطع بين الحين والآخر . يتردد صداه بين الجبال فترد عليه بومة بنعيق حزين . . وكأنها تعلمه بوجودها . وتقول له نحن سدنه الليل . نام الجميع ونحن ها هنا ساهرون ويقطع هذه الأصوات صوت الخفافيش التي تطير في خطوط متقاطعة قريبة من الأرض أحياناً فينزعج الكلب الرابض أمام دار الشيخ صالح . وينبح فجأة وكأنه يقوم بدوره في هذه السمفونية الليلية المتكررة . تعود الشيخ صالح علي هذه الأصوات كل ليلة . . فهو يعيش وحيداً في ظلمة دائمة بعد أن فقد ولده الوحيد . . وفقد بصره حزناً عليه ولكن الله قد عوضه عن فقدان بصره . . بحاسة سمع قوية مرهفة . . لقد سمع بين هذا الضجيج شيئاً غريباً وكأنها أنات قلب جريح وآهات صدر معذب.
استند إلي الجدار وتلمس طريقه حتى وصل إلي عصاة فتح الباب وهو يلوح بعصاه في الهواء قائلاً: "من هناك؟" جري نحوه الكلب وهو يهمهم وكأنه يريد أن يرشده لشيء . . أصغي باهتمام . . ثم اتجه ناحية الصوت مسترشداً بكلبه وعصاه . . ارتطمت عصاه بجسم ملقي على الأرض . . رسم حدوده بعصاه . . فأدرك أنه إنسان . . انحني علية تحسس رأسه عرف أنه رجل خاطبه قائلاً: "ما بك يا بني؟؟" رد بصوت واهن مرتجف "دعني وشأني" امضي لحال سبيلك . . لعلي ألقي حتفي . . وترتاح نفسي المعذبة . . قال الشيخ صالح : "استغفر الله ولا تقنط من رحمة الله" . . جذبه من تحت إبطيه . . اسنده إلي جدار بيته وهو "يقول ساعدني حتى أتمكن من مساعدتك" . . نهر كلبه حتي لا يؤذيه . . أحضر الشيخ الماء . . رشه على وجههه . . ثم سقاه . . انتعش قليلاً . . قال له: "حاول أن تنهض معي حتى ندخل الدار لأن الجو بارد . . وأنت كما تراني أعمي ولا أقوي على حملك . . استند عليه ودخل الإثنان الدار . . أغلق الشيخ الباب .. قال له: "أجلس يا ولدي حتى أحضر لك ما تأكله" . . كان حسن ما زال يرتجف مما تعرض له من البرد وطول الطريق . . أحضر الشيخ خبزاً ولبناً وبعضاً من العسل . . قال: "كل يا ولدي لعل هذا الطعام يمنحك الدفء" أكل حسن وشكر الشيخ صالح . . قال الشيخ : "الحمد لله .. الذي بعثني إليك في الوقت المناسب نم الآن يا ولدي . . ولنا في الصباح حديث..
استيقظ الشيخ مبكراً كعادته . . جهز طعاماً له ولضيفه . . كان يتمتم بكلمات الحمد والشكر لله والرضا بقضاءه . . استيقظ حسن من نومه كان ينتقل ببصره في كل أرجاء الغرفة . . كما كان يتفرس في وجه الشيخ صالح . . لقد كان الظلام كثيفاً ليلة أمس ولم يستطع تمييز أي شيء . . أحس الشيخ أنه استيقظ . . بادره قائلاً: "صباح الخير يا ولدي قد نمت نوماً ثقيلاً . ." فرد عليه: "لقد كنت متعباً" . . قال الشيخ: "قم واغتسل لعل الله يزيح عنك الهم". . جلس حسن والشيخ يتناولان الطعام . . قال الشيخ: "الآن قص علي حكايتك" . . قال بصوت باك: "اسمي حسن همام . . من القرية المجاورة . . أحببت فتاة مثل القمر ملكت فؤادي . . وأسرني هواها منذ الصبا . . لعبنا سوياً ونحن صغار . . وتواعدنا وتعاهدنا علي الزواج ونحن كبار . . لم أعرف سواها . . ولم تعرف سواي. . اتفق والدي مع والدها على خطبتها لي وكنا أنا وهي في غاية السعادة . . ولكن شاءت قدرة الله أن يتوفي أبي . . فطمع الطامعون بتجارته فلم يبق لنا سوي القليل . . تغيرت نظرة أبوها لي . . أراد أن يزوجها من رجل غني . . اتفقنا أنا وهي على الهروب من القرية والزواج . . قالت لي "إنها تفضل الموت على الزواج بغيري" خرجنا أنا وهي قبل بزوغ الفجر . . كنت أحمل متاعنا بذراع . . وكانت تمسك بذراعي الآخر . . كنا نمضي ولا نحس بالطريق من تحت أقدامنا . . وكأننا نمشي فوق الماء . . أو نحلق في السماء . . لم ندر كم قطعنا من الطريق . . عند الظهيرة . . جلست أنا وهي نستريح تحت ظل شجرة أغمضت عيني وأعتقدت أن مركب أحزاني قد رست علي شاطئ الأفراح . . فجأة سمعت صرخة مدوية . . فتحت عيني . . وجدت أبوها ومعه ثلاثة رجال على خيولهم . . وقد أحاطوا بنا من كل جانب نهضت مسرعاً . . لكنهم كانوا أسرع . . انهالوا علينا ضرباً بالسياط . . حتى فقدت وعيي من شدة الضرب ثم كان آخر ما رأيت أنهم يحملونها معهم . . وهي تقول "الموت عندي أهون من أن أكون لغيرك يا حسن" أحسست . . بالهوان . . تمنيت لو أنني مت قبل هذا . . ثم غبت عن الوعي . . لم أدر كم مضي علي من الوقت حتى أفقت . . وجدت جسدي مثخناً بالجراح . . وجراح قلبي أشد . . بكيت بكاءاً مريراً . . مرت أمامي صورة "نور" حبيبتي . . تذكرت آخر كلامها . . آه يا نور . . لقد أبعدوك عني . . أخذوك مني . . انطفأ نور حياتي بفقدك يا نور . . "فلا حياة لي بدونك ".
أحست بطعم المر بحلقي . . قمت . . غالبت ضعفي ووهني . . مشيت على غير هدي . . تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعني . . أو يلدغني حنش شارد . . طواني الليل في ظلمته . . حتى وقعت أمام دارك من فرط الإعياء . . قال الشيخ صالح: "هون عليك يا ولدي . . فلكل داء دواء . . فأشد لحظات الليل ظلمة هي التي تسبق الفجر وأشد لحظات الضيق يليها الفرج . . وأشد ساعات المرض هي التي تسبق الشفاء . . عليك بالصبر يا ولدي فهو خير دواء" . . فرد حسن باكياً "أبعد هذا تقول لي اصبر يا شيخ؟؟" . . نعم يا ولدي قال الحكماء من صبر ظفر . . وقالوا من صبر نال مقصوده وبالصبر يولد الأمل فالأمل روح الحياة . . فبدون الأمل تموت الأحلام توئد في مهدها . . وآه لو ماتت الأحلام . . يحل محلها اليأس والقنوط والشقاء . . ولا شفاء !! انظر إلي يا ولدي لقد كنت أعمل راعياً للغنم . . وكانت لي زوجة جميلة ومحبة وولد اسمه جاسر . . وهبني الله قوة في الجسم . . وبسطة في الرزق . . هجرت الناس هذا المكان منذ القدم خوفاً من البركان . . وسكنت أنا به برغم أنه مكان ميت . . ولكن ربما تولد الحياة من قلب الموت . . كنت أبيع الغنم لأهل القري المجاورة . . كما كنت أبيع لهم العسل . رد حسن قائلاً: "هذا العسل الذي أكلته عندك لم أذق مثله من قبل" قال له: "هذا عسل نحل بري فيه شفاء للناس . . فقد اكتشفت مغارة على سفح أحد الجبال يسكنها النحل كنت أذهب إليها وأجمع العسل وأبيعه لأهل القري المجاورة . . وكنت آخذ منه حاجتي دون زيادة أو نقصان . . وأرجع وأنا راضي والله سبحانه وتعالي يقول وقوله الحق "لأن شكرتم لأزيدنكم" .
وفي أحد الأيام وأنا أهش النحل حتى أتمكن من جمع العسل لمحت عيناي حجراً له بريق عجيب . . التقطه وعدت به إلي داري ثم عرضته على أحد التجار بالمدينة . . فرح الرجل به . . وطلب مني المزيد . . ووعدني بمال . . وفير وعلمت منه أنه حجر كريم . . أحضرت لزوجتي وولدي حاجتهم من المؤن والكساء . . وحمدت ربي .
كنت أذهب لموقع البركان مرتين كل أسبوع مرة لأجمع العسل . . ومرة لأبحث عن الأحجار التي جمعت منها الكثير . . ومرت الأيام ونحن في أسعد حال . . ولكن دوام الحال من المحال !! وليس بعد الكمال سوي النقصان!! مرضت زوجتي مرضاً شديداً وماتت بعد ثلاثة أيام . . حزنت عليها حزناً شديداً فقد كانت لي نعم الزوجة ونعم الرفيق . . وضاقت الدنيا بوجهي واسودت . . لكني تذكرت ولدي فمن له غيري يعتني به . . غالبت حزني . . وصبرت . . فنعم أجر الصابرين . . وأعانني الله على رعاية ولدي .
ومرت الأيام . . كبر ولدي وجاوز الشباب طلب مني أن يذهب معي لنجمع العسل والأحجار . . فقد كنت أتركه بالدار مع الأغنام وهو صغير . . صنعت له حذاء خشبياً مثل حذائي فبدونه لا نستطيع المشي على صخور البركان فهي حادة كالمسامير . . سوداء كحراب صدئة . . دخلنا أنا وهو إلي البركان فهو خامد منذ مئات السنين . . أرضه جرداء قاحلة . . ليس بها زرع ولا ضرع إلا الهوام والأفاعي وطيور الليل والجوارح . . جمعنا ما استطعنا جمعه من أحجار . . وخرجنا قبل حلول الظلام . . فرح ولدي بهذا الرزق الوفير .
وفي يوم من الأيام شعرت ببعض التعب فلم أقوي على الخروج معه . . طلبت منه ألا يخرج حتى أتعافي وأخرج معه . . لكنه رفض . . قائلاً: "لا تخف يا والدي لقد صرت رجلاً" غابت الشمس ولم يعد ولدي . . غاب عقلي ربما طمع بالمزيد ولم يدرك الوقت حتي داهمة الظلمة . . فلم يعرف من أين يخرج أو ربما حدث له مكروه ؟ ؟ أو ربما ؟ ؟ حاولت أن أنهض من فراشي للبحث عنه لكنني لم أستطع . . لم أذق للنوم طعماً حتى الصباح . . تحاملت علي نفسي وأخذت معي قربة ماء وحبل وعصاي . . دخلت إلي مكان البركان . . بحثت عنه كثيراً فلم أجده . . زاغ بصري هنا وهناك . . جلست لأستريح . . نظرت إلي السماء وجدت عدداً من الغربان تهوم مجتمعة فوق أحدي الهضاب . . أيقنت أن هناك ما يستحق أن أراه . . ذهبت إلي هناك وجدت ولدي . . وأسفاه . . قد طاح بهوة عميقة . . وتخضبت أرضها بالدماء وقد فارق الحياة . . حاولت أن أنزل إليه ولكن الحفرة كانت عميقة جداً وجدرانها سوداء وملساء . . فشلت كل محاولاتي للنزول إليه . . كان وجهه ناظراً لي . . أحسست أنه يعتذر لي . . ويقول: "آسف يا أبي إذ تركتك تحيا وحيداً" . . هانت علي نفسي . . هممت بأن ألقي بنفسي إليه حتى نموت معاً . . لولا أن رأيت غراباً قد حط أمامي وراح يخطو للأمام بخطوات واثقة ثم يستدير فيعود من حيث أتي كرر هذه الحركات أكثر من مرة ثم رف بجناحيه وطار . . ذكرني بغراب قابيل وهابيل . . عدت إلي رشدي . . وقلت لو مت من الذي يدفنني أنا وولدي أحسست أن قلبي يتمزق علي ولدي . . لكن ما باليد حيلة . . وهذا قضاء الله لابد أن أتقبله راضياً . . تجمدت الدموع بعيني قمت توضأت وصليت لله . . ثم صليت علي ولدي وغطيت فتحة الحفرة بأحجار طويلة متجاورة . . ثم أهلت عليها الرمال حتى غطيتها . . وجلبت أحجاراً ذات لون أحمر . . وضعتها متراصة بشكل الهرم . . حتى تكون علامة لي . . وجدت بجوار الحفرة متاع ولدي . . وكيساً مملوءاً بالأحجار الكريمة التي جمعها قبل سقوطه في الحفرة . . وكأنها آخر رسالة منه لي تحمل رائحته . . حملتها وعدت وحيداً. . كنت أجر قدماي جراً وأحس بأنني محملاً بذنوب الأرض كلها. . لأنني تركته يذهب وحيداً .
وصلت داري . . أغلقت بابي علي . . عندئذ أحسست بفداحة الخسارة وانهمرت الدموع من عيني كسيل . . بكيت وحيدي بكل ما في عيني من دموع حتى أحسست أن بئر الدموع في عيني نضب ولم أعد أري صوراً سوي ما يشبه الأشباح لقد فقدت بصري يا ولدي كما تري .
كان حسن يبكي هو الآخر وارتفع صوته بالنحيب . . حتى قاطعه الشيخ قائلاً: "كفي يا ولدي لقد أردت أن أخفف عنك . . ولم أقصد أن أزيدك حزناً أسمع يا ولدي لكن رغم كل شيء دائماً يبقي هناك بعض الأمل والصبر أحسن دواء . . لقد مرت الأيام وها أنا ذا أمامك أعيش وقد تعلمت حكمة الحياة . . فكل شيء يولد صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة تولد كبيرة ثم تصغر . . حتى لا يبقي منها سوي الذكري . . وأحياناً يكون النسيان نعمة . . فلو بكينا على ما ضاع منا لفاضت بحور الأرض دمعاً ولكن لن يرجع ما ضاع أبداً منا حتي لو بكيينا بدلاً من الدموع دماً . . عليك بالصبر يا ولدي . . قم بنا لأريك المكان خارج الدار . . لقد كان الظلام كثيفاً ليلة أمس ولم تر أي شيء حولك . . نظر حسن إلي المكان الممتد أمام بصره .. قال يا إلهي!! لكأننا واقفون عند حافة العالم . . قال الشيخ: "صدقت يا ولدي فهنا نهاية العمار . . هذا ما خلفه البركان . . جبال سوداء ووديان سحيقة غائرة . . وكلها سوداء من أثر الحريق . . حتي ساكنيها يتشحون بالسواد وكأن الجميع قد أعلن الحداد والحزن علي ما كان . . رد حسن في دهشة: "وهل يسكنها أحد". ابتسم الشيخ وقال . . "يا ولدي برغم هذا الموات . . تولد الحياة في كل يوم . . فسكان هذا المكان هم الأفاعي والعقارب والحرابي والنمل والنحل وسائر الحشرات الهوام . . حتى الطيور التي تعشش بأعالي الجبال سوداءً أيضاً . . ففيها البوم والحدادي والغربان وغيرها أليست هذه حياة؟" سأل حسن: "ومن أين يأكلون؟" . . رد الشيخ ضاحكاً: "يأكل بعضهم بعضاً" . . فتساءل حسن؟ "ولكن من أين يشربون؟؟" رد الشيخ : "إن الجليد الذي يكسو قمم الجبال ينساب منه الماء عذباً رقراقاً فينزل من عليائه ويتجمع بأحد الوديان ليشرب منه الجميع . . ألم أقل لك إن رحمه الله قد وسعت كل شيء" . . قال حسن" "آمنت بالله رب العالمين" زفر الشيخ زفرة طويلة حارة . . وقال آه . . لقد ذكرتني بولدي . . إن شاء الله عندما تتعافي أصحبك إلي البركان كي أزور قبر ولدي . . فمن يوم أن دفنته لم أزره ولن أجد أفضل منك رفيقاً لي .
مضت عدة أيام علي حسن وهو بدار الشيخ صالح حتي استرد عافيته . . وشفيت آلام نفسه . . حتي أنه قال مخاطباً الشيخ: "أما آن الأوان أن تنزل إلي البركان يا شيخ صالح" قال الشيخ" "والله ياولدي أنني مشتاق لذلك ولكنني أخشي عليك" . قال حسن: "لا تبال يا شيخ لقد صرت أحسن من ذي قبل . . قال الشيخ: "على بركة الله نذهب غداً عند الشروق" .
تزود الشيخ صالح بما يلزم الرحلة . . كما صنع حذاء خشبياً لحسن . . وأخذ يتلو عليه النصائح حتي يدرك خطورة ما هم مقبلون عليه . . استيقظ الإثنان مبكرين . . حمل حسن الماء والطعام وتبعه الشيخ صالح كان يصف له الطريق كما ربط الشيخ حبلاً بين وسطيهما حتى كانت المسافة بينهما لا تجاوز متراً واحداً . . مضي الإثنان حتى وصلا إلي مكان القبر . . جلسا عنده بعض الوقت . . ثم قام الشيخ وطلب من حسن التجول بالمكان حتى يبحثا عن الأحجار الكريمة . . ولقد كانت المفاجأة عظيمة لكليهما. . لقد اكتشف الشيخ أن هذا المكان ممتلئ بهذه الأحجار ويبدو أن ولده قد اكتشف ذلك قبل وفاته . . جمع حسن ما استطاع أن يجمع من هذه الأحجار حتي امتلأ الكيس الذي معهما . . وضع حسن الكيس وما معه من أغراض بجوار القبر وذهب هو والشيخ صالح إلي مكان ظليل . . وأخذا يتناولان الطعام . . استرخي حسن قليلاً . . كان الشيخ صالح يحادثه فلم يتلق منه رداً فأدرك أنه قد راح في النوم . . تركه بعض الوقت ثم أيقظه حتي لا يدهمهما الليل هما بهذا المكان . . فالشيخ يؤمن بأن المكان الذي يخلو من الناس تسكنه الشياطين.
قال له هيا بنا يا ولدي حتى نرحل من هذا المكان قبل أن يحل الظلام . . ذهب حسن إلي حيث وضع الكيس . . وعندما مد يده ليمسك الكيس وجد حية كبيرة قد التفت حول الكيس . . وقد همت منتصبه وأصدرت فحيحاً مخيفاً . . ارتعدت منه أوصاله . . فارتد إلي الورداء مسرعاً حتى يتحاشي سمومها التي قذفتها نحوهما . . أجلس حسن الشيخ . . بمكان آمن وفك الحبل الذي يربطهما . . ثم أخذ عصا الشيخ وعاد ليقاتل الأفعي . . حذره الشيخ قائلاً: "احترس يا ولدي واحذر أن يصل سمها إلي عينيك فإنه يسبب العمي . . اضربها علي رأسها وابتعد بجسدك عن أنيابها وأن وجدتها قد رحلت دون أذي فاتركها تمضي من حيث أتت" . . رفع حسن عصاه ليضرب تلك الأفعي العنيدة ولكنها انحرفت بخفه . . وهوت العصا على الأرض . . وانتصبت الأفعي مرة أخري وقذفت السم لكن حسن هو الذي انحرف هذه المرة ليتفادي هذا السم الزعاف . . حاول حسن أكثر من مرة وهو يناوش هذه الحية الملتفة حول الكيس ولكنها وقفت متحدية وكأنها تدافع عن مالها الخاص. . ولسان حالها يقول: "إما أنا وإما أنت" . . أحس حسن أنه في محنة ولا بد أن يتخطاها تخلص من خوفه نهائياً واستجمع شجاعته . . ثم أخذ يقذفها بالأحجار من أماكن متفرقة ملتفاً حولها . . حتي سنحت له فرصة فهوي بعصاه على رأسها مهشما أياها . . تلوت الأفعي ضاربة الأرض بذيلها تريد أن تصل إليه . . لكنه أتبعها بعدة ضربات أخري حتى أجهز عليها . . كانت هي تلفظ أنفاسها وهو يتنفس الصعداء وكأن موتها قد بعثه إلي الحياة وأعاد إليه شجاعته المفقودة منذ تلك الليلة المشؤمة حين ضربه الرجال . . لقد شفي تماماً وغادره الخوف والخنوع والإنكسار . . ألقي بجسدها بعيداً وانحني علي الكيس محتضنا إياه وهو يحمله . . غادر المكان متوجها إلي الشيخ صالح الذي كان يتسمع صوت خطواته في لهفة عليه قال: "الحمد لله على سلامتك يا ولدي" ربط حسن الحبل بينه وبين الشيخ . . وتحرك الإثنان في طريقهما للعودة مروراً بالقبر . . قال الشيخ: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" . . كانت الشمس تميل للغروب في الوقت الذي حطت بعض الجوارح على الأرض وتجمعت حول الحية ليمزقوا جسدها بمناقيرهم الحادة . . وهم يهزون أجنحتهم السوداء فرحين بهذا الرزق الوفير كان حسن يلقي النظرة الأخيرة على هذا المكان الموحش وهو يتقدم للأمام بخطوات واثقة ونشيطة ساحباً الشيخ صالح خلفه حتى وصلا إلي الدار . . كانت الليلة مظلمة وباردة . . دخل الإثنان وأغلقا عليهما الباب . . وجلسا يستريحان . . فلقد نال منهما التعب ما نال . . أقتحمت الذكريات رأس حسن فلقد كانت الليلة شديدة الشبه بأول ليلة حضر فيها إلي الدار . . ولكن حسن لم يعد هو نفس الرجل المحطم القادم في تلك الليلة المشؤمة .
في الصباح طلب الشيخ الكيس الذي جمعوا فيه الأحجار . . تحسسه بيده . . ثم قال لحسن "ياولدي هذا الكيس لك . . بارك الله لك فيه" . . قال حسن: "لا والله يا شيخ صالح . . يكفيني معروفك معي لقد وجدت نفسي عندك وتعلمت منك الكثير وعادت إلي ثقتي بنفسي" بعد أن فقدتها وربما فقدت حياتي أيضاً" . قال الشيخ: "ياولدي لقد ترك لي ولدي كيساً آخراً قبل أن يموت . . فاحفظ عليك كيسك الذي حاربت من أجله . . وسوف أصف لك مكان التاجر . . وأعطيك رسالة له حتي يطمئن إليك . وعليك أن تحمل كيسي وكيسك . . لتبيعهما للتاجر" أما المال الذي تجنيه من بيع كيسي فاشتري لي به غنماً . . وأما المال الذي تأخذه من بيع كيسك فهو لك فربما نفعك في استعادة حبيبتك نور" .
تجهز حسن للسفر إلي المدينة . . في صباح اليوم التالي ودع الشيخ وذهب . . وصل إلي المدينة . . سأل عن التاجر . . قابله . . رحب به التاجر . . واستقبله في بيته أحسن استقبال بعد أن علم أنه قادم من طرف الشيخ صالح . . أخذ منه الكيسين . . أعطاه المال . . كان المبلغ كبيراً . . لم يحلم حسن بمثل هذا المال من قبل . . طلب من التاجر شراء الأغنام للشيخ . . أرسل التاجر أحد عماله لتدبير ذلك . . كما اشتري حسن لنفسه فرساً بيضاء أصيلة . . لها غرة سوداء حالكه في جبهتها . . ذكره سوادها بتلك الليلة المشؤمة . . كما نظر إلي بياض هذه الفرس الغالب علي أنه الفجر الذي أضاء بنوره فتقلصت الظلمة ورحلت إلي غير رجعة . . ولم يبق منها سوي الذكري . . كما اشتري لنفسه ثياباً فاخرة . . واشتري أساور ذهبيه لنور . . وأهداه التاجر سيفاً كان له . . وأرسل في صحبته رجلين من عماله يقتادان الأغنام حتي وصلوا جميعاً إلي دار الشيخ صالح الذي فرح بهم كثيراً .
بات حسن الليلة عند الشيخ . . ثم استأذنه في الرحيل الي قريتة ضمه الشيخ إلي صدره بقوة قائلاً: "والله أحس أنني أودع ولدي . . قال حسن: "وأنا والله أحس كأنك والدي" . . ووعده بأن يعود عندما تتحسن أموره . . أنطلق حسن عائداً إلي قريته فدخلها كأنه القائد المظفر . . ولم لا؟ وقد انتصر علي ضعفه وشفيت جراح نفسه . . وفتحت له الدنيا أبوابها بعد أن سدت . . كان يمتطي فرسه . . في شموخ واعتزاز وعيناه تلمعان ببريق ينم عن الثقة والقوة . . ثيابه ثياب الأمراء . . وسيفه معلق بجانيه وكأنه فارس في زمان قل به الفرسان . . كان كل من رآه . . يرمقه بإعجاب . . التف حوله الناس . . فمنهم من لا يعرفه ويخاله أحد الأمراء . . ومنهم من يعرفه ويقول سبحان الله هكذا يكون العز والشرف.
وصل حسن إلي بيته . . خرجت أمه وأخوته الصغار . . رمقته أمه وهو علي صهوة جواده وسط الجمع الملتف حوله . . عرفته . . وقعت مغشياً عليها . . فقد أعتقدت أنه مات . . ولكن شيئاً خفياً داخلها . . كان يهمس لها إنه قادم . . نزل حسن من على فرسه . . احتضن اخواته الصغار . . وجري إلي أمه وقبل رأسها . . ومسح دموعها . . كانت حبيبته نور جبيسة دارها منذ تلك الليلة المشؤمة بعد أن رفضت الزواج من الرجل الذي فرضه عليها أبوها . . وهزل جسدها البض . . وشحب لونها الوردي . . حين علمت برجعة حسن لم تصدق . . أهي حقيقة؟ أم طيف خيال فطالما حلمت بعودة حسن . . ورسمت في خيالها منظره وعاشت تلك اللحظة . . وسرعان ما أكتشفت أن ذلك وهم . . وكم طوت آلامها وآمالها بين ضلوعها وصيرت . . ولم يبق لها سوي دموعها وذكري أيام مضت تؤنس وحدتها فهي لا تكلم أحداً ولا تسمع لأحد . . ونظراتها جامدة . . وأمها تنظر إليها في حسرة منذ تلك الليله السوداء . . وكم عاتبت أباها . . وألقت اللوم عليه فيما حدث لأبنتها . . لم تستطع أن تكبح جماح نفسها . . وأنطلقت تجري كعصفور فتح له باب القفص . . رجعت بها الذاكره إلي الوراء عندما كانت طفلة صغيرة . . عندما كانت ساقاها النحيلتان تسابقان الريح للقاء حسن . . أسرعت بكل قوتها . . لمحها حسن . . فتح لها ذراعيه ارتمت بينهما . . كظمئان رأي الماء فارتمي فيه حتي يطفيء عطشه . . لم يشعرا بما حولهما . . والتحم الجسدان . . لقد وحد اللقاء مشاعرهما . . وجمع قلبيهما وشفي صدريهما .
انتبهت أم حسن حين رأت أم نور وأبوها قد حضرا خلف ابنتهما . . نبهت حسن حينئذ انفلتت نور من بين ذراعي حسن . . ووقع بصره علي والدها . . تحسس سيفه دون أن يشعر . . اعتقد الرجل أن حسن سوف يثأر منه لما فعله معه . . تراجع مذعوراً وهو يقول في استعطاف: "سامحني يا ولدي . . لقد أسأت إليك وطاوعت شيطاني" . . كان حسن يصوب إليه نظرة وكأنها سهم يريد أن يفتك به . . نادته نور بصوت مرتجف قائلة: "لا يا حسن . . لا تنس أنه والدي" هدأ حسن ورجعت النظرة الحانية إلي عينيه وقال: "لأجل خاطرك أسامح الدنيا كلها يا نور . . لكن يبقي هناك شئ يجب أن يراه أبوك" . . "قالت ما هو؟؟" مد حسن يده إلي حزامه وأخرج كيساً به سواران من الذهب . . وهو يقول: "لقد أحضرت هذا لنور . . وأريدها زوجة لي . . هل تقبل؟؟" رد الرجل وقد شعر بالطمأنينة . . إنها لك يا حسن . . لقد عرفت الآن أن سعادة ابنتي تساوي الدنيا وما فيها . . وأشهد الله وأشهد الناس أنها لك.
تشابكت أيديهما وجذبها حسن وأركبها فرسه . . ثم أنطلق بها عبر المزارع والحقول . . وكأنه قد عبر بجواده حاجز الزمن وعاد بها إلي سابق عهدهما . . حين كانا طفلين يلهوان تحت الشجر.