كان أبو نمر يحس بشيء من الأمان قبل أن يدخل الإنجليز دمشق، لكنه الآن بعد دخولهم ولأنهم يرعون وأمريكا حركة المقاومة الفرنسية بعد أن احتل الألمان باريز كانت لسياساتهم وقراراتهم اليد العليا رغم امتعاض ديغول.
والنفوذ الأوروبي في المنطقة واحد في الجوهر مختلف في الصور. معاهدة سايكس بيكو (1916) مكنت إنجلترا وفرنسا من تقاسم سوريا الطبيعية ولكن كلا الطرفين غير قانع بهذه القسمة.
الحركة الصهيونية حصلت على الغطاء الشرعي من منظور القانون الدولي، ليس وعد بلفور كافياً لا بد من نزع الشرعية عن فلسطين كجزء لا يتجزأ من سوريا الطبيعية الأم. وبالتقاسم حسب المعاهدة وضعت لبنان والشام تحت الانتداب الفرنسي.
وفلسطين والأردن تحت الانتداب الإنجليزي الذي يسر للهجرة السبل، لكن اتفاق الطرفين وحده لم يخل من تجاذب الأقران ودوائر النفوذ. لعب الإنجليز لعبتهم وسلخوا الموصل التي كانت جزءاً لا يتجزأ من الخارطة السورية. إلا أن اكتشاف النفط طمع الإنجليز بها، فضغطوا على الفرنسيين للقبول بقسمتهم. ولم يكونوا أوفياء لحلفائهم، أما الفرنسيون بدورهم فكانوا يتغاضون عن ثوار الثورات الفلسطينية اللاجئين إلى سوريا ولا يلاحقونهم فردت إنجلترا الصاع صاعين لفرنسا في صراعها مع تركيا الكمالية وأطماعها في شمال سورية والشمال الغربي منها وآوت الثائرين على فرنسا في حضن أمارة شرق الأردن.
في أجواء كهذه سلخت الإسكندرونة عن سوريا الأم، وحيدت فلسطين من الاعتبارات الشرعية للقانون الدولي فأصبحت وطناً متنازعاً عليه لا جزءاً من وطن لـه كل الشرعية في المحافظة عليه.
من هنا فإن قلق أبو نمر كان مبرراً، وأن السلطة الإنجليزية التي أصبحت لها اليد العليا الآن في سوريا تنذر بالخطر. حياة أبو نمر الذي لم يثر على اليهود فحسب بل على من يحميهم من قوة الانتداب أصبحت مهددة.
ومن عجائب الاتفاقات أن الغرفة التي استأجرها أبو نمر عند أم عارف استأجرها قبله لاجئ من الإسكندرون لكنه كان نمراً ميتاً بدون بئر.
يدخل الجيش الإنجليزي دمشق من جهة شرق الأردن وفلسطين عن طريق درعا وحكومة فيشي هي المسيطرة على قوة الانتداب في سوريا كما في فرنسا.
تقديرات الجنرال بيتان أن فرنسا لا تستطيع أن تجابه جيوش ألمانيا النازية، ينتهي إلى مساومة مع هتلر وإقامة حكومة فرنسية وطنية متعاونة مع الاحتلال النازي. تمركزت حكومة فرنسا الجديدة في فيشي. لا بد للإنجليز الذين يجاورون دمشق في الأردن وفلسطين من أن ينظفوا سوريا من أتباع حكومة فيشي المتعاونة مع النازية.
يدخل الإنجليز سوريا وتستلم المقاومة الفرنسية بزعامة الجنرال ديغول سلطة الانتداب في سوريا, وبعد أن كانت سوريا محتلة من قبل جيش واحد هو الجيش الفرنسي، أصبحت محتلة من جيشين، وأخذ الصراع بين النفوذين الإنجليزي والفرنسي يحتدم من أجل السيطرة.
وحين وصلت سيدة الفانتازيا بالقراءة إلى هذا الحد تغلق المخطوطة وتضعها على طرف المكتب.
تدخل المجذوبة بصينية القهوة فتناول كل فنجانه يحتسيان القهوة فتقول المجذوبة مشكلة المشاكل بالنسبة لعارف كانت كيف يجد عملاً يدر عليه دخلاً معقولاً يكفيه أن يصرف على نفسه أثناء الصيف ويوفر شيئاً منه للمدرسة في الشتاء بعد أن يشتري كاميرا كوداك فقد كان غاوياً للتصوير دون أن تتوفر لـه الآلة. اشترى واحدة من قبل لكنها خربت.
العملة قليلة في أيدي الناس والإنتاج الزراعي مصادر والأحوال الاقتصادية في ركود. جرب حظه في سوق الهال فعمل عند الفتال في موسم القمردين وساق معه أكثر من دزينة من الفتيان عمل عليهم مشرفاً، واشتغل في "البزورية" عند الإيتيوني في حمام قديم من أيام نور الدين الزنكي انقلب إلى مخزن تجاري، ولم يستطع أن يوفر شيئاً من أجره.
تنهي سيدة الفنتازيا فنجانها وتعود إلى المخطوطة.
يقول موسى لعارف: لماذا لا تأتي معنا في الصباح الباكر إلى بستان الرئيس وتسجل اسمك عند "الصاجن ميجر" وتشتغل عند الإنجليز مثل أخيك، إنهم يفتحون طريقاً جبلياً خلف جبل قاسيون يؤمن لتحركاتهم خطوطاً آمنة. فقال لموسى: لكن الإنجليز لا يشغلون من يقل عمره عن ثمانية عشر عاماً. فأجاب يشغلونك ويعطونك أجر نصف عامل، راشد وفارس يشتغلان معنا في الورشة نفسها. منها أنك تتسلى وفي الوقت نفسه تسحب عملة. قلت: ربما يكون هذا هو الحل فأجرة نصف عامل عند الإنجليز ليرة ونصف في اليوم وهو مبلغ لا أحلم بمثله وتجار سوق الهال والبزورية لا يدفعون مثل هذا الأجر لمعلم.
ـ شاور نفسك ورد علي خبراً.
ـ هل ستأتي إلى السهرة عند أبي نمر الليلة.
ـ على الأغلب.
ـ سأخبرك الليلة.
في المساء اجتمعنا عند "أبي نمر" وهو فلسطيني من الثوار الذين اشتركوا من عز الدين القسام لجأ بعد وقوف الثورة إلى أنسباء لـه في الحي متوارياً عن الأنظار باسم مستعار وهوية أخرى.
فارس يعمل في مصانع النسيج اليدوي وراشد معلم مدرسة ابتدائي وما يقبضانه من أجر عند الإنجليز في ذلك الصيف كان مغرياً ويشكل دخلاً إضافياً لهما. راشد لا يعمل في العطلة الصيفية فيشغله فارس في الليل.
قضى الشباب السهرة عند أبي نمر، وأخبر عارف موسى برغبته في أن يجرب العمل مع الإنجليز. وشجعه على ذلك راشد وأبو نمر. فهو بحاجة ليعين أمه بتحمل مصروف المدرسة على الأقل، وعمله وأجره كنصف عامل يوفر لـه ذلك أكثر من العمل مع تجار البزورية وسوق الهال.
وتعجب عارف وأترابه من السهرة عند أبي نمر من الإنجليز وفتحهم هذا الطريق الجبلي في جبل قاسيون، طريق لا يفيد شيئاً في نظرهم، إلا أن أبا نمر فسر الأمر تفسيراً مقبولاً.
الإنجليز يريدون أن يؤلفوا قلوب الناس. قال راشد.. وكمزاحم للفرنسيين محلياً يريدون أن يكسبوا عطف السوريين. أما أبو نمر فكان أكثر عمقاً في سبره للمسألة.
ـ الإنجليز يريدون دائماً أن يحفظوا خط الرجعة، والطرق الخلفية والمتوارية عن الأنظار أكثر أماناً وسلامة.
ـ إنهم لا ينسون رومل ثعلب الصحراء. صحيح أنهم انتصروا بانضمام الولايات المتحدة إلى الحلفاء.. إلا أنهم وجدوا تهديداً لهم باستيلاء حكومة فيشي على السلطة، فكان عليهم أن تحتل جيوشهم سوريا وأن يزيحوا فيشي بقوى فرنسا الحرة، بزعامة ديغول.
الخبز ومصاريف المدرسة كانت تشغل بال عارف، لا الحرب وأسرارها. لكنه بصحبته لراشد وموسى وسهراتهم جميعاً عند أبي نمر الثائر المجرب، أفادته كثيراً، بأن وسعت مداركه وكشفت لـه أن الأشياء لا تقاس بمظاهرها بل وبأسبابها وعللها.
في الصباح الباكر مر عليه فارس وموسى وذهبا إلى مكتب تسجيل العمال في حي بستان الرئيس. ونقلهم إلى دمر بالسيارات الشاحنة "اللوريات". وسجل اسمه مع من سجل. وصعد إلى الشاحنة معهم فرحاً ونقلتهم إلى التلال المحيطة بدمر، وعمل عارف جنباً إلى جنب مع أخيه وفارس وموسى بنقل التراب بالقفف والحجارة الكبيرة على ظهره، وهو نحيف القامة، رقيق العود، يبصره المراقب الإنجليزي برتبة "الصاجن مبجر" ينقل حجراً كبيراً على ظهره يبتسم ويبدي سروره بالعامل المخلص.
غير أن الورشة ككل لا سيما الكبار فيها يفهمون لعبة الإنجليز. ينهمكون بنقل الحجارة ويبذلون طاقتهم كانت كلمة السر بينهم "عباءة" إذا جاء الصاجن فينغمسون بالعمل إلى أذقانهم لكن الصاجن لم يكن أهبل، كان يعرف ذلك ويطنش عليه، ربما كانت تعليماته هي كذلك. "ألهو الناس".. لا تدعوا لهم مجالاً للتفكير والتمرد على السلطة.
في فرصة الغداء، تحلق شباب الورشة كلهم وفتحوا زواداتهم: زيتون وبصل وخبز ولبنة ومكدوس وحلاوة وماء..
غير أن عارف لا ينسى طعم ذلك الماء طالما عاش.. كانت البراميل التي يحضرون بها ماء الشرب أصلاً براميل لنقل الزفت. ثم تحولت إلى براميل تنقل مياه الشرب للشغيلة من مياه الفيجة. إنها نظيفة ولكن طعمها لا يطاق لا يزال ذلك الطعم طعم الزفت تحت لسانه. حتى الشاي الذي كانوا يغلونه كان يحتفظ بذلك الطعم المميز، في الحرب.
وفي آخر الأسبوع ذهب عارف إلى مكتب الشغيلة ليقبض أجره، لكنه فوجئ بقول المحاسب: لا يوجد مبلغ مخصص لك.. فأنت غير مسجل كعامل. لكنه قال له: "ونصف العامل" فأجابه المحاسب: ليس لدي شيء كهذا وما من فلوس لك. وهكذا ضيع أسبوعاً كاملاً سدى وحصد في نهايته الألم والكآبة والخيبة. وقرر أن يتوجه من الصباح المبكر إلى معلمه القديم أبي حسن، في معمل الثلج، ليعمل معه وفي باله جملة واحدة لا تفارقه هي قولة أبي نمر: "الإنجليز أسوأ من الفرنسيين".
إنه يؤمن أن العمل مقدس سواء أحمل ألواح القمردين أو ألواح الخشب أو ألواح الثلج، عليه فقط أن لا يخبر أهله بهذا. توقفت سيدة الفانتازيا عن القراءة وسالت المجذوبة:
ـ ألم يكن من الممكن أن يصارح أباه أو يواجهه. فكيف يساوم أمه على عمل لا يعجب أباه؟!
فأجاب عارف: لم يكن لأبيه الوقت الكافي للالتفات إليه.. أوكله إلى أمه واكترث يسحب الرزق.
فقالت: هل كان يشعر أنه قد أهمل؟!
ـ لا ليس عن إهمال.
ـ كان ذلك نمط العلاقة بين الابن والأب، الأم هي المسيطرة، هي الأقرب الأكثر حميمية، والأب واجهة رسمية.
ـ ربما كان يعشق أمه ويعاني عقدة أوديب.
ـ أنت ست نفسانية. تتكلمين عن اللاوعي ما يعرفه في وعيه أن أباه لا يريده أن يخدش اسمه فإذا اشتغل شغلاً لا يرضاه تسخن العلاقة بينهما ويصبح الأب هو الأقرب والأعنف.
فقالت المجذوبة: إنها شقاوة الأولاد. فقال: هذا شيء آخر، الفلوس التي كان يحتاجها ليتدبر أمره هي الأهم.
فقالت سيدة الفانتازيا: ألم يكن هناك عمر آخر؟ فقالت المجذوبة: المتيسر الآن "طنبر الثلج" تنقل في أعمال كثيرة. لكن كلها كانت مؤقتة ودفعها قليل، أو مؤجل. أما طنبر الثلج فالدفع كل يوم.. والبخشيش أو المنح كانت جيدة.
فقالت سيدة الفانتازيا: هيا هات حدثنا يا عارف عن الأحوال في تلك المرحلة. فشرع يقول:
في يوم كانت الحارة كلها محاصرة، العسكر يقفون على مفارق الطرق. لا يدعون أحد يخرج من الحارة، ولا يدخل غليها، ظننت أنهم يكبسون بعض المشتركين في المقاومة الوطنية إلا أنني سريعاً ما عرفت حقيقة الأمر.
كان مع ضابط الحملة أفندي بثياب مدنية يدله على مداخل الحارة ومخارجها، كنت واقفاً أمام باب الجامع مع راشد وفارس وهو صديق أثق به نذهب معاً إلى المدرسة نفسها. وكثيراً ما نشترك بالعمل معاً أثناء الصيف. جاء إلينا حميد وموسى وقالا: إنهم يبحثون عن أبي نمر.
فقال فارس: هل هؤلاء العساكر يمثلون فرنسا أو إنجلترا؟ فأجاب راشد: لا فرق عند المخاطر المشتركة واقتسام الغنائم. فهما وجهان لعملة واحدة، فقال فارس: أبو نمر فلسطيني ولاجئ إلى سوريا., فما حاجة الفرنسيين به؟! فقلت: إنه من منظمي الثورة الفلسطينية قاوم الاحتلال الإنجليزي.
تكْ تكْ تكْ, أزيز الرصاص كأصوات الولادة والموت تنبع من أصابع الزمن وتجري كالنهر الذي يصب في الأبدية.
أم عارف عيناها على مكنة سنجر، تعارك الزمن ينطفئ نور عينيها ليتدفق الخبز ويسكت الجوع، ويداها ترتجف لتشك الخيط في إبرة التطريز.
تكْ تكْ تكْ الطاعون على أسوار القدس ينخر كالسوس جسد الأمة والأحرار تنتصب قاماتهم في المعركة ويسقطون بالشهادة ثم يقومون من الموت أجيالاً أخرى.
أبو نمر بعد عراك دام مع الإنجليز والصهيونية يحمل طفلته درية وبندقيته يعانق هذه وتلك من أجل أن يطلع الفجر من تراب الوطن.
يأتي بدرية إلى دمشق ويستأجر غرفة في بيت أم عارف ويودع درية بين يديها تعلمها التطريز لتكافح الفقر والعوز.
تكْ تكْ تكْ، درية درية درية يا ذات العيون الشهل التي هاجمها غبار الفقر. أيها الحب الذي لم يتحقق وأبو نمر ينازع في عتمة المنفى ويتفسخ في البئر.
مآذن القدس حزينة على درية وأبي نمر تكْ ـ تكْ ـ تكْ وعارف يتعمد في نهر الألم، يغزل الحلم بالموت الذي يؤدي إلى القيامة ويعيد الطفولة الضائعة بالنار التي تنهض من أوراق الذاكرة.
ظل أبو نمر يناضل في نهايات الحرب العالمية الثانية، لكن الإنجليز ضيقوا الخناق عليه. وشحت موارده وباع كل ما يملك في سبيل تحرير وطنه وتوحيد شعبه.
وحين ضاقت به السبل لجأ إلى دمشق واستأجر بيتاً من بيوت الحارة بعد أن استأجر غرفة في بيت أم عارف، كان متكتماً وصامتاً مع من لا يعرفه. أما حين كنا نزوره فكان مضيافاً كريماً واجتماعياً.
وكثيراً ما كان يقص علينا أخبار المقاومة على الأرض الفلسطينية. إلا أنه قلما تكلم عن نفسه، كنا نعرفه ويعرف أننا نعرفه. لكن الصمت كان يعطيه حس الأمان. وهو في جوهره متواضع. ويتمتع بالحكمة والتجربة، لكثرة ما مر على رأسه من كوارث ومصائب. لم يكن يتخذ عملاً يعتاش منه. وكان أقرباؤه يرسلون إليه من فلسطين ما يضمن أوده من الفلوس. وكان أهل الحي يجلونه، ويحبونه، كأنه واحد منهم. لا يخاطبونه باسمه المجرد يوسف القدسي بل بأبي نمر، والحق أن وجهه المخدد بالتجارب لـه ملامح النمر وعيونه المتوهجة. قضى عمره يقاوم الحركة الصهيونية, فقال حميد: وماذا يريد الفرنسيون منه؟! قلت: إنها المصالح المشتركة يا غشيم. يأخذون أبو نمر. ويقبضون عليه, ويسلمونه إلى قوى الأمن الإنجليزي في فلسطين. فيعطونهم بدلاً عنه شخصية سياسية كالدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أو نبيه العظمة أو أي رمز من رموز المقاومة يقيم لاجئاً في شرق الأردن. فقال حميد: هذا غير معقول. فالإنجليز لا يمكن أن يتجاهلوا سلطة الأردن.
فقلت: المهم أنهم يلاحقون أبو نمر، ويريدون القبض عليه..
أبو نمر فلسطيني من القدس. لم تندلع ثورة على الأرض الفلسطينية إلا واشترك فيها، في ثورة الـ 36 حارب مع سعيد العاص واشترك مع عز الدين القسام والحاج أمين الحسيني وحين توقفت الثورة، باع أرضه واشترى أسلحة من السوق السوداء. ونظم أعمالاً وطنية باهرة، إلا أن الإنجليز وقفوا لـه بالمرصاد وحاولوا أن يقبضوا عليه، لأنه اصطدم ببعض قواتهم المسلحة التي كانت تحمي الصهاينة.
عيناه متوقدتان، كأنهما سراجان في الظلمة، كان جسده في دمشق وروحه هناك في القدس، يتحين الفرص من أجل العودة إلى ساحة العراك. وكان من المقربين لعز الدين القسام والأرجح أنه حارب تحت إمرته على أرض عيسى بن مريم.
وكثيراً ما كنا نقضي عنده بعض الأماسي، نحتسي الشاي أو القهوة. ونتذاكر الأوضاع الراهنة، كنت أنا وفارس وحميد وموسى وأحياناً سعدو نزوره في الليل فكان يبش في وجوهنا، غير أن وجهه الرجولي لا يستطيع أن يخفي امتعاضه حينما يكون سعدو معنا، بينما كان يأنس بموسى كثيراً، وكثيراً ما كان يرحب به بقوله: أهلاً بابن الشهيد.
سألته مرة: ليش ما بيعيش اليهود والفلسطينيين سوى؟!
فأجاب: أنا بقدر عيش مع اليهودي، لكن هو ما بيقدر يعيش معي. أنا ما بدي أقتله، هو اللي بدو يقتلني. ويأخذ أرضي. بيحرم علي حتى الدفاع عن النفس. بيمارس الإرهاب، وبينسف بيتي، وبيصادر مزرعتي، وبيقتل أطفالي، وبسميني إرهابي!!
وإذا طالبت بحقي بيقول إني خطر على حياته وأمنه. الجسد الفلسطيني يهدد هويته فلا بد إذن من تدمير هذا الجسد!! وهوية تنفي الآخر وتصفي جسده هي خطر على القيم الإنسانية.
إرهابي أنا لأنني أدافع عن حقي وأرضي. من يعطي اليهودي أسلحة تدمرني ويمنعني من السلاح والمقاومة هو شريك في الجرم.
ـ أعطني آربي جي فلا تتجرأ دبابة واحدة أن تدخل أرضي. من يمنح العربي سلاحاً ضد الطيارات من الذي يقتله؟؟. المستوطنون الذين يغتصبون أرضه أم الذين يمولون هذا القتل ويخططونه؟!
فيقول فارس: الإنجليز أرحم من الفرنسيين لأنهم يعطون الشعوب المنتدب عليها حيزاً أوسع من الحرية، ولا يتدخلون بكل شاردة وواردة.
يضحك أبو نمر ويقول: "ما بتعرف خيره لتجرب غيره". ويقص علينا نادرة طريفة، قائلاً: إذا أخذ الإنجليز مكان الفرنسيين سوف تترحمون على نابليون.
ابتلى الله الناس بحاكم أكثر تعسفاً من قرقوش. كان يقتل الأبرياء، ويخلي سبيل المجرمين الحقيقيين. حتى يتمكن من رقاب العباد. وحين توفي تنفس الناس الصعداء وما استلم ابنه مقاليد الأمور، حتى استأنف سيرة أبيه، وسكر زيادة. كان يحكم على البريء، لا يقتله فحسب بل يضعه على الخازوق وهو ميت. فصارت الناس تقول: الله يرحم بيّه.
فضحكنا جميعاً إلا سعدو، الحق مع أبي نمر، إن سعدو يتظاهر بشيء وينطوي على شيء آخر إلا أن موسى وحميد وفارس, يقولون: إنه حمار شغل. أو يقولون بيتحمل دعك، وحين تحين مجازفة ما كان صلباً لا يهتز لـه جفن لا شجاعة وجرأة بل طمعاً في الكسب والمال الحرام، وتاريخه مشبوه من حيث علاقته وعلاقة عمه بمخابرات الانتداب. وقصص سعدو مثل قصص الأفاعي, إذا ابتدأت لا تنتهي وقد اعتاد حميد وفارس أن يشتغلا في العبارات أيام الصيف وهي مصانع نسيج محدودة في حينا وضواحيه. أكثرها يدوي، وقد جريت حظي فيها لصيف واحد. ولم يكتب لي الاستمرار.
أما سعدو فأحياناً يرافق أباه إلى الجولان أو حوران, فأبو سعدو يقرض البدو والفلاحين مقدماً ويشتري مواسمهم قبل أن تغل الأرض ويتملك حليب غنمهم قبل أن يدر، ليس لـه حرفة تجنبه من الفقر، وليس متعلماً ليعمل في إدارة الحكومة معلماً أو شرطياً أو دركياً كالكثيرين من أبناء حينا، وهو كله مستوى واحد من العوز وقلة الفرص وندرة المال والعملة في أيدي البشر.
والانتداب الفرنسي يختط سياسة معروفة، التعليم محدود، والثقافة محدودة وأن يبقى الناس بين قوى التبعية والاعتماد عليه، ليصيروا إما متعاونين معه أو عملاء لـه أو على لا شيء، أو من قوى التمرد والثورة.
وفارس كأبيه شيخ الشباب ذو نخوة ومروءة. يتقاسم معنا الحلوة والمرة وحين تضيق مواردنا ينبري للدفع، فدائي تحت الطلب تجده حين تطلبه أما موسى فمربوع أشقر الشعر مشرب الوجه بالحمرة أكبرنا سناً إلا أنه ينزل على رأي الجماعة، خدوم لا يوفر جهداً لإرضاء أصدقائه.
أما حميد فحيسوب من الدرجة الأولى يحب التخطيط والتنظيم. لا نقوم بحفلة إلا ويتسلم خزينتها، ولا نذهب سيراناً أو مشواراً إلا ويضع يده على سيره وخطته. فنحن جميعاً في ظروف متشابهة اجتماعياً إلا أن بعضنا مرتاح مادياً أكثر من بعضنا الآخر سيما إذا تيسر عمل دائم لرب الأسرة، وهو قليل ومحدود.
وفيما خلا موسى والداعي كلهم ينعمون بدفء حنان الأبوين، أما موسى فقد استشهد والده في معركة ميسلون، وتوفي والدي في آخر سنة في سني الحرب الكونية الثانية، فأنا وموسى أكثر حرية في التحرك منهم وأكثر تجارباً.
قال: هذه ثالث مرة يكبسون الحارة شو القصة؟ كل هالقد مهم أبو نمر؟!
فقلت: ربما اعتبره الفرنسيون مسؤولاً عن روح المقاومة التي تنتشر وتتسع وتقض مضاجعهم.
فقال: فارس مسؤول عن روح المقاومة؟!
قلت: ربما. إلا أن ملاحقة الفرنسيين لبعض الفلسطينيين من أمثال أبي نمر يتم وفقاً لاتفاقات ديبلوماسية بين الفرنسيين والإنجليز وصفقات تبادل منافع بينهما.
وأردف راشد قائلاً: أنسيتم معاهدة "سايكس بيكو"؟ واحد إنجليزي والثاني فرنسي. قسموا بلاد الشام، وصلّبوها لأنها أقضت مضجع الصليبيين من قبل وهذا هو جزاؤها!
فقلت: لكن الإنكليز هم الذين أعطوا وعد بلفور!! ليمكنوا اليهود من فلسطين.
فأجاب راشد: طبعاً جعلوا المنطقة في فراغ قانون دولي، لو كانت البلاد موحدة لتمتعت بشرعية دولية أما وأنها أربع كيانات أو خمس فمن السهل ازدراد كيان منها بتحقيق وعد بلفور!! وازدراد الكيانات الأخرى مسألة وقت!!
قال راشد: لا تذهبوا إلى بعيد أيها الأصدقاء، أبو نمر يهيئ مع فوزي القاوقجي لثورة جديدة في الشام وفلسطين في آن!! وهذا سر خوف السلطات الفرنسية وقلقها. التعاون بين الدولتين الفرنسية والإنجليزية كان أبداً خاضعاً لمنطق دوائر النفوذ.
فقال موسى: يتخاصمان على الغنائم. نعم ولكن في النهاية يتفقان علينا.
فقلت: هل نظل مكتوفي الأيدي، أما نقوم بشيء؟! فأجاب راشد: يجب أن ننظف بيتنا أولاً. في المرة الماضية خبأنا أبا نمر في تابوت المسجد وانطلت الحيلة على العسكر ماذا نصنع الآن؟! وفي آخر لحظة غيرنا الخطة. أخرجناه من التابوت في الليل وخبأناه في ضريح "الزينبية". وهي ولية تقية.
قال موسى: أبو شوارب تنك فتحي أفندي هو الذي فسد علينا للفرنسيين، وتقاضى مبلغاً عالياً من المال على هذه الإخبارية، احذروا أبو شوارب تنك ولا تشركوه في أي شيء.
فقلت: ولكن الذي أخبر أبو شوارب تنك عن خطتنا هو سعدو، والأرجح أنهما تقاسما الجائزة. لكني لا أريد أن أثير هذه المسألة الآن. المهم علينا أن ننقذ أبو نمر. الزينبية مدفن لولية صالحة من أيام الأكراد الأيوبيين وضعته مديرية الأوقاف تحت رعاية زوج خالتي أبي هشام وأنه مسور ومفتاح الباب عنده.
قال حميد: أحضر مفتاح المدفن يا عارف. ضريح السيدة الصالحة زينب كان مخبأ أميناً لأبي نمر في المرة الماضية. أما الآن فقد ساورتنا الشكوك أيضاً حول هذا المخبأ!!
لأن مديرية الأوقاف أرسلت موظفاً من موظفيها بصحبة عسكري من البوليس.
استجوب زوج خالتي أبا هشام وأخذ منه المفتاح، مفتاح المدفن وتفقداه بعناية بالغة. وقبل أن يردوا المفتاح إلى أبي هشام, قال لـه العسكري: أمتأكد أنت أن المفتاح في مكان أمين؟ أجابه أبو هشام: لا تقلق من الآن ورايح سوف أضعه في عبي.
كان أبو نمر يتردد على المدفن في أواخر الليل. يتسور البناء الأصفر الذي يحدث عن القدم، وينزل من إحدى شبابيك قبته الصفراء المهدمة ويأوي إلى الضريح.
والضريح قسمان: القبر الحقيقي تحت الأرض، حيث تستريح عظام السيدة الصالحة التي تبقت لها. لقد تمتعت بروح من الله، صرفت ثروتها الطائلة على الجهاد، وكثيراً ما كانت تستقبل المجاريح من المجاهدين ضد الحملات الصليبية في دارها وتطببهم وتعيلهم على نفقتها. وهاهي الآن تستقبل أبا نمر الذي نجا بفضلها من كبسة العساكر الثانية، جاؤوا مدججين بأسلحتهم وعلى هامشهم أبو شوارب تنك لم يكن ظاهراً للعيان أو بارزاً إلا أنه كان قلقاً لا يبرح يدور في مكانه بخطى موتورة. سعدو وأبوه يراقبان الحالة بعيون خائنة. حتى ولو فتحوا باب المدفن لما وجدوا أبا نمر, لأنه كان يختبئ في قلب الضريح في السنام الترابي الضخم وهو أشبه بكوخ من أكواخ الفلاحين. يرفع الثوب الذي يكسو الضريح ويزيح شاهدة القبر ويدخل من الفراغ الذي ينفتح خلفها في إطار الضريح الترابي الضخم. وفي الليل يترك أبو نمر المدفن ويذهب إلى الجبل.
إن يوسف الفلسطيني هذا يدخل إلى القبر يوماً، ويقوم منه ولمحبتنا إياه نتصور أنه سيخرج من مئذنة مسجد قبة الصخرة يوماً ما شاهراً بندقيته على من اغتصب أرضه!! لكنه الآن قابع في ضريح السيدة التي كانت تستقبل جراح البشر بقلب مفتوح.
قلت لحميد: وهذه المرة ماذا نصنع؟
أبو هشام يضع مفتاح المدفن في عبه. لقد أصلح شباك الدفن تحسباً وخوفاً من المسؤولية.
قال حميد: اذهب إليه، وحاول أن تقنعه بأنه ما يزال ضريح السيدة آمن مطرح يختبئ فيه أبو نمر. إنه قريبك ويصغي إليك.
حين ذهبت إلى أبي هشام استقبلني بوجه باش، إلا أنه لم يعطني المفتاح، حين طلبته منه، وقال لي: أصبح مخبأ المدفن مكشوفاً، والذي خبر السلطة، عن مخبأ التابوت في المسجد، هو الذي خبرها عن مخبأ السيدة زينب. ثم أردف قائلاً: حلقتكم مثقوبة ومن هذا الثقب تتسرب أخباركم إلى البوليس!!
فقلت: ماذا نصنع بأبي نمر والقوة على مداخل الحي، إنهم يدخلون إلى مبنى الجامع ويتفقدون التابوت كما فعلوا في المرة الأولى. فقال: لا بد أن خطوتهم الثانية سوف تكون إلى المدفن، بركة السيدة الصالحة أفسدتها النفس الأمارة بالسوء. نفّضوا ثيابكم ونظفوا أنفسكم!!
قلت: أما من حل آخر؟! قال: الجبل مكشوف أيضاً. ولو أن الليل درع يقي مسالكه من العيون المتربصة. فأجبت: إن الوقت يهرب من بين أصابعنا. وهو في بيته لا يدري ماذا يصنع إذا خرج منه اكتشفته عيون البوليس وأوقعت به.
قال أبو هشام: انزل من على سطح بيتنا إلى بيته، واصحبه من فوق الأسطحة إلى هنا، والبيوت يومئذ كالناس عربية مكشوفة يلتصق بعضها ببعض ويستمد الأمان.
قلت: أنت أيضاً وبيتك أصبحتما موضع شبهة السلطة. ألم يستجوبك البوليس مداورة عن طريق تفقد مفتاح المدفن من قبل موظف الأوقاف؟! قال: لا تخف هذه المرة سنخبئ أبا نمر في مكان لا تكتشفه العفاريت. قلت: أين؟ قال: لا تسأل ما معنا وقت. ودفعني من كتفي: هيا.
تسللت إلى الدور الفوقاني من داره، وتعربشت إلى السطح متجاوزاً داراً واحدة إلى دار أبي نمر. وهتفت يا الله حتى يخلي الحريم الطريق.. فاستقبلني أبو نمر وعانقني وقبلني وقال: الله بعتك.. ماذا جاء بك من هذه الطريق المتسلقة؟!
قلت: هيا معي إلى أبي هشام من الطريق نفسه.. الوقت يداهمنا. إن العسكر في طريقهم إلى المدفن. وهو قبالة بيتك. والأرجح أنهم سيتفقدونه قبل أن يأتوا إلى دارك، لأنهم لا يتوقعون أن يروك فيها. أخذ أبو نمر غطرته وعقاله. وتسلقنا معاً الطريق إلى الأسطوح بواسطة درج يقود إلى المشرقة فالسطح.
وصعدنا إلى السطح.. وما هي إلا دقائق حتى كنا في بيت أبي هشام!! فضحك أبو هشام. وقبل أبو نمر, وتحاضنا.. وقال أبو نمر: بيتك كبيتي. سيأتون إلى هنا. ونكون كمن حبس نفسه في مصيدة. قال أبو هشام: لا تخشى، هم الذين في المصيدة.. التابوت، وضريح السيدة الصالحة يملآن أخيلتهم. إنهم يهجسون بك، ولكنهم لن يضعوا إصبعاً عليك، دمشق الشام ما هي بأغلى من القدس. والقدس ما هي إلا بشام أخرى. قلت: يا أبا هشام إنهم على باب الزينبيه. وأنت ترقعنا خطاباً ماذا تصنع بالرجل؟!
قال: ما اسم صاحبنا يا عارف.
قلت.. هل انتدبك البوليس لتحقق معه؟!
قال.. ما اسمه؟ قلت: أبو نمر. قال: اسمه وليس كنيته. قلت يوسف الفلسطيني. قال: ألم تقرأ سورة يوسف في الكتاب الكريم؟! قلت: نعم، لقد ألقى أخوته به في الجب.
قال أبو هشام: هذا كان ما فعله أبناء يعقوب العبراني في الصحراء!! وهو ما يصنعه أبناء إسماعيل في دمشق الشام، فيحفظون يوسف الفلسطيني في قلوبهم.
فقلت: هلق وقت الشعر؟!
قال: ما هو بشعر. إنها حقيقة. وأتى بسل كبير. وقال لأبي نمر: ادخل هذا السل. وربطه بحبل طويل متين. وأعطاه عباءتين صوفيتين من وبر الجمل من صنع البدو وأعطاه شموعاً وكبريتاً وزوادة تكفيه الجوع. وقال له: أما الماء فسوف تجده في البئر.. ودلاّه في بئر البيت إلى القاع وأنا أساعده.
نظام آبار دمشق قبل أن تمتد إليها أساطل مشروع مصلحة مياه الفيجة معروف لدى الناس. نهر يزيد يشق سفح المدينة من نهايات وادي بردى. وقد شق الناس ترعاً تحت الأرض. يسمونها بالسرابات، تؤدي بالماء أفقياً في جداول جارية، تنقل مياه النهر إلى الناس في دورهم.. فلكل بيت بئر. تحفر خمسون ذراعاً أو أقل أو أكثر ويبني مستودعاً من الآجر للماء للأغنياء. ويترك ترابياً للفقراء.. فيطعم الماء بالتراب كما أتذكره الآن..
فأبو نمر هبط إلى الجب لا هبوط يوسف العبراني بل هو كالمهدي. لديه خبز وماء وشموع، يتجاوز ضوءها عتمة الآبار الدمشقية إلى تلال القدس وشواطئ أرض كنعان.
النهر الذي احتضن طفولتي يحتضن أبا نمر ويحميه بنظام السقيا.
خرجت من بيت أبي هشام، فتلقاني حميد وراشد وموسى وفارس يستطلعون الخبر. فلم أفصح بشيء. فقد كان سعدو على مرمى إذن منا. وخلفه فتحي أفندي بشاربيه المعقوفين، وعينيه المكحلتين كجرحين، اختلط فيهما الدم بسواد الكحل.
الوقت قبل صلاة العصر. نقف أمام جامع أبو النور الذي يبعد مسافة دقيقتين سيراً من دارنا، كنا نتجمع هناك فتياناً على جهة وشباباً على جهة أخرى, نتسلى بالحديث أو سماع الأخبار، أحياناً نلهو لهواً بريئاً وآونة ننزلق إلى لهو غير بريء، لا سيما إذا حرضنا الشباب على بعض الأشخاص الذين ينقصهم الاتزان، أو أننا نحن بخبثنا كنا نفقدهم اتزانهم.
أبو شوارب تنك شخصية طريفة، يعمل مخبراً عند الفرنسيين، يكحل عينيه، ويبرم شاربيه، ويلبس زينته، ويخرج إلى الحارة ليستعرض (شبوبيته) يشتري خبزاً دون أن يدفع ثمنه، ويملأ حقه من صنبور ماء الفيجة قبل غيره، ويملأ سلته فاكهة سلبطة على بائع الفاكهة.
يهتف بي راشد، عليك به إنه عميل يضبط شواربه بسراس الفرنسيين حتى يقفا كمقود الدراجة، فابتسم دون أن أريه وجهي:
ـ أبو شوارب تنك، ويندفع الفتيان الآخرون في ما يشبه الجوقة.
ـ أبو شوارب تنك (بصوت رفيع).
ـ أبو شوارب تنك (بصوت خشن).
فيقفز فتحي أفندي من الأرض. قامته لا تبلغ طول عصا جدي، قصر قامته وامتداد شواربه المعقوفة يثيران في النفس مفارقة ضاحكة. يشبه شكله هلالاً وضع أفقياً على عصا قصيرة، يمتلئ بسلطة المجتمع، لكنه هزأة ضحكة بين الوطنيين يدير وجهه نحونا دون ن يتبين من الصارخ، فيمضي فنصرخ: أبو شوارب تنك. بأصوات خشنة وحادة تختلط في جوقة واحدة.
فيعود إلينا ويسأل وهو يكظم غيظه: من يصرخ لي؟ من ينادي؟
أغلب الفتيان والشباب يزحمون الضحكات في أفواههم، ويكبتونها عبر حناجرهم إلى الرئتين. ويلتفتون إلى الجدار حتى لا يراهم فتحي أبو شوارب تنك. الذي يعود فيسأل من.. من.. وعندما لا يجيبه أحد على سؤاله ينتقل إلى اللوم والتعنيف.
ـ يا قليلي التربية، بلا أخلاق. الحق ليس عليكم بل على الذين ربوكم. أرذال أولاد أرذال. دواكم عندي يا أولاد الداشرين. أنا فتحي أفندي سوف تعرفون من أنا وفرقعات الضحك المخنوق تنفلت من الشفاه الكاتمة نحو الجدران.
وحالما يبتعد تتعالى الأصوات واحداً بعد الآخر أبو شوارب تنك أبو شوارب تنك أو تتعالى أصوات الجوقة من جديد:
ـ أبو شوارب تنك.. أبو شوارب تنك.
ننتقم هكذا من فتحي أفندي.. غير أنه يكيل لنا الصاع صاعين، ولكن بطريقة لئيمة إذ لا يوفر فرصة حتى يشي بنا إلى سلطات المكتب الثاني (Deuxeme Bireau) ويا ويل الذي تنطبق عيه الوشاية. أو تتأيد بأضعف دليل فالسجن مصيره دون محاكمته دون أن يخرج منه لشهور بل لسنين.
فتحي أفندي الملقب (بأبو شوارب تنك) هو الذي يقود الكبسات والدوريات التي تفتش عن الوطنيين ويتلقى من أجل ذلك ثمناً بخساً!! والأرجح أن سعدو يقاسمه ذلك الثمن البخس لأنه كان يشمشم أخبار الحي من الداخل ويدسدس خفاياها ويزودها بتقارير شفهية لفتحي أفندي، ويعتبر ذلك دهاء وذكاء لا تجسساً وخيانة شأنه شأن عمه أبو غانم.
إنه ليوم مشهود! لمدينة ما زالت مضربة. أحياؤها جميعاً نزلت إلى مقر المشيريه، حيث يحرك المفوض السامي خيوط إدارة الانتداب على بلد يستحق أن يكون حراً طليقاً، وتأبى عليه التوازنات الدولية هذه الحرية، البروتوكولات الدولية والمعاهدات السرية بعد الحرب العالمية الأولى، جعلت من سوريا أربع مستعمرات، يحكمها الفرنسيون والإنجليز. وبعد أن أسست القوى الوطنية أول مملكة عربية، بعد عصور من الانحطاط طويلة، ذات مجلس تأسسي منتخب وملك دستوري، لم تحظ هذه المملكة التي عبرت عن إرادة الشعب لا بموافقة الفرنسيين ولا الإنجليز الذين حارب العرب معهم ضد الأتراك. فكان جزاؤهم أن تقسم بلادهم إلى دول تحت، الحماية والوصاية التي مارست عليهم من خلالها استعماراً مقنَّعاً سافراً.
توجس أبو هشام خيفة من تتابع الملاحقات والكبسات العسكرية على أبي نمر، حتى إنهم كبسوا بيته وبيت أبو نمر في آن. إلا أنهم لم يلقوا بالاً إلى البئر، وأيقن أن بقاء أبي نمر في الحي أصبح خطراً عليه، وعلى أصدقائه. وليس عملياً أن يبقى أبو نمر في البئر مدة طويلة، فهو مكان رطب. وعلى عمق خمسين ذراعاً تحت الأرض، لا شمس ولا هواء. وإن توفر منه بعض الهواء إلا أنه ثقيل وقليل الأوكسجين في مثل هذا العمق. أما الزاد والماء فليس مشكلاً. يستطيع أبو نمر أن يشرب من ماء البئر فلا يعطش، وأن يدلى لـه الزاد الضروري بدلو البئر ليقيم أوده، ويأمن غائلة الجوع. إلا أن المشكلة في مكان ضيق. والإقامة على حرف نصف قبة مقلوبة إلى الأسفل كحوض يزوده النهر عبر السراب بماء متصل يحجز الحركة ويصيب جسد أبا نمر بالعطالة، وهو الذي تعود أن يكون كالذئب مستوحداً في البرية. يكافح ضد من اغتصب أرضه وداره، يسعى متخفياً من السلطات الجائرة والمتواطئة على حياته ومصيره وحياة ومصير شعبه.
أزمع أبو هشام ألا يطلع أحداً على مخبأ أبي نمر في البئر في داره، وإبليس نفسه لا يمكن أن يحزر مخبأ كهذا فهو في مأمن من السلطات الفرنسية المتعاونة مع الإنجليز لملاحقة أبي نمر وأمثاله!!
وطلب من عارف ألا يبوح لأحد بهذا المخبأ حفظاً على حياته. قال لعارف عندك مطرح للسر يا عارف أجابه: بئر ما لـه قرار. فضحك مع أبو هشام للمشاكلة.
السهرة كانت دورية بين أبي هشام وأصدقائه وموعد السهرة الليلة عند زكريا خلف في بيته. فأزمع أن يطرح مشكلة أبي نمر على الأصدقاء الليلة دون أن يكشف الستر عن مخبأه ومكانه، فطلب من عارف أن يقوده إلى بيت زكريا خلف لأنه ضيع نظارته وكان بصره خفيفاً لا يستقيم بدون عينيه الإضافيتين من البللور.
في المساء عاد عارف إلى بيت أبي هشام وقاده إلى السهرة في بيت زكريا خلف.
كانت جدتي "زلخو" تشتري لنا الأقمشة من عنده وتفصلها عند خياطات الحي الشاطرات، تنانير وبيجامات وقمصاناً ولباسات، وكثيراً ما كانت تستدين هذه الأقمشة، وزكريا لا يحسب ولا يحاسب.
طرقنا باب زكريا، فخرج إلينا خادمه وفتح الباب، فدخلت وأبو هشام إلى المضافة وأتى زكريا يحلج على عكازته الطبية, ضم أبا هشام إلى صدره، وقبله ووضع كفه على رأسي فاركاً فروة شعري بضحكة ودعابة. قائلاً: وأنت أيضاً ستشاركنا السهرة اليوم؟! قلت هذه رغبة أبي هشام.
قال.. على شرط أن تأخذ دوراً كباقي الشلة، وتهيئ لنا سهرة في دارك في يوم من أيام الأسبوع.
قال أبو هشام: أنا آخذ دوره إن جدته "زلخو" لا تحب الضجة.
قال زكريا: على الرحب والسعة أنت ضيفي، أصدقاء أبي هشام أصدقائي يا مرحباً بك.
جلسنا في المضافة وقدمت لنا الخادم القهوة المرة. فاحتسينا فنجاناً وفنجاناً وفنجاناً.
حتى قال لي أبو هشام: إذا كنت لا ترغب بالمزيد هز الفنجان وقام الحركة بيده، وهي عادة عربية قديمة، يمارسها عرب البادية عندنا، كذلك هي شائعة في أحياء دمشق الشعبية.
هززت الفنجان فلم يصب لي الخادم فناجين أخرى.
طرق الباب وهرع الخادم لفتحه، فدخل أبو سعدو فرحب به أبو هشام وداعبه زكريا بقوله: شو على بالك يا ابو سعدو. نحن ننحت رزقنا من الفجر إلى النجر كل يوم ثلاثين يوماً في الشهر. و اثنا عشر شهراً في السنة. ومع ذلك يا الله نلحق يا الله ما نلحق. أما أنت فعمل محدود بمواسم الحصاد وطقوس الخصب. حيث تلد الأرض وما عليها من الأنعام ولك نصيب في لحمها وصوفها وحليبها وزبدتها وأجبانها، تنك السمن مصفوفة صفوفاً أمام الدار. والخزانات مليئة بالقمح والجرار بالقاورمة. والبايكه بالخراف والخيل.
فأجاب أبو سعدو: حسد وإلا ضيقة عين؟!
فقال زكريا: لا هذا ولا ذاك، حين أرحب بك. أتذكر الغلة والمواسم التي يجنيها مدينوك وتنعم بها أنت.
أبو سعدو: الله مقسم الأرزاق ويرزق من يشاء بغير حساب.. لكن أبو سعدو أسقط من الآية: (من يتق الله يجعل لـه مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب( واستبقى ما يدعم حجته.
فقال زكريا: إن الذين يأكلون الربا يأكلون في بطونهم ناراً.
جلس أبو سعدو قليلاً من الوقت واحتسى فنجاناً من القهوة, وهو يرتجف وتأثر تأثراً بالغاً من دعابات زكريا. وبعد أن أنهى القهوة استأذن بالانصراف.. فحاول زكريا أن يجامله، وأن يستبقيه في المجلس. نحن في شوق يا أبا سعدو وقريباً سوف تسافر إلى الجولان لقطاف ثمار الموسم..
أبو سعدو.. قهوتك مشروبة، وضيافتك مقبولة، إلا أنني أتوقع زوّاراً بشغل.. والعيش أولى فأخذ أبو هشام يشد زكريا من طرف ثوبه دون أن يراه أبو سعدو وهو يقول اتركه هذه المرة لرزقه، والأسبوع القادم عندي.
ففهم زكريا عليه لكن الضيف الثقيل استقر في المجلس، تظاهر بالاقتناع بحماسة زكريا وجلس حيث هو مع امتعاض أبي هشام.
يقرع الباب. يدخل أبو فارس وبصحبته أبو رشاد إلى المضافة وزكريا يهتف يا مرحباً بوجوه الخير. شرفتم داركم وأهلكم. وكان أبو هشام يعول كثيراً على أبي فارس، فكلاهما كان يؤوي الثوار في الثلاثينيات ويطعمهم، ويؤمن لهم الملجأ والمال والسلاح أحياناً، ويجمع التبرعات من القادرين والموسرين ولم يكن ليتأخر عليهم أحد، كما اشتهر عنهما من الأمانة وحسن التدبير والثقة التي تحتاجها العمليات المسلحة ضد قوى غاشمة، لا تعرف غير البطش طريقة في إقرار الظلم.
أما أبو راشد فقد كان متحفظاً لكنه كان نقي القلب، نبيل القصد، يوافق أو يخالف بكلمات قصار بعد أن يستمع إلى كافة الآراء ويجيب أحياناً. بنعم أو لا بعد أن يروز الآراء، ويغلب أكثرها مصداقية، ويريد أن ينسجم مع نفسه وثوب الدرك الرسمي الذي يلبسه.
اكتمل عقد السهرة. وأخذ الخادم يصب القهوة بخطى مهيبة وثابتة، وزكريا يشير إليه بيده أو بجفنه، يفهم عليه، ويلبيه دون تلكؤ.
قال أبو هشام: أهل النخوة أصبحوا قلة في هذه الأيام، وحين تندر النخوة يذهب الناس كرمال في الريح.
قال أبو سعدو.. توقعت أن نلعب الورق في هذه السهرة.. فما بالك تفتتحها بخطبة بل بمحاضرة عن المقاومة والثورة.
فقال أبو فارس.. لا تخطف "الكباية من رأس الماعون" دعه يكمل، فربما كان فيما يقول الخير لك وللآخرين.
أبو هشام..
السلطات تضيق الخناق على أبي نمر، وهو متوار في مكان ما عن عيونها. وهو بحاجة إلى المعونة.
زكريا.. أنا أعطيه بالمئة عشرين من ربحي لهذا العام كله.
أبو فارس: سوف أوعز للشباب لجمع التبرعات من الحي جميعاً.
أبو سعدو: أرى أنكم فتحتم أكياس تقودكم قبل أن تتعرفوا حقيقة الأمر.
أبو هشام: يريد أبو نمر أن يجهز حملة لحرب عصابات في الأرض المحتلة.
أبو سعدو: وهل الحي قادر على تمويل هذه الحملة؟!
أبو هشام: طبعاً لا.. ولكن أبو نمر يريد خميرة بسيطة من أجل أن ينطلق، كما نعول على إسهام الأحياء الأخرى.
أبو راشد: أنا مع أهل النخوة، وإن كانت حيلتي من النقد ضيقة الآن إلا أنه لدي مسدس سوف أتبرع به، وحين تغل المواسم سوف أعطيكم مبلغاً جيداً من المال.
أبو سعدو: لماذا لا تضمن سفر أبي نمر إلى تركيا. وكفى الله المؤمنين شر القتال؟!
أبو هشام: إنك تهين الرجل، يريد أن يعود إلى أرضه وبلده، ومستعد أن يضحي بروحه في سبيل ذلك، وأنت لقروش قليلة تريد أن تلقي به في متاهة الغربة.
أبو سعدو: أتعطف عليه هذا العطف لأنه سميك يا يوسف.
أبو فارس: بارك الله باليوسفين، أبي نمر وأبي هشام.
زكريا: آه يا يوسف العظمة ـ آه يا ميسلون وهو يتلمس نهاية ساقه، لقد خدعنا غورو. ولم نكن مستعدين لهذه الخديعة. عولنا على شرف الأمم، ومثلها البراقة، لكن على الأرض كانت هذه الأمم تطمع بنا وبثرواتنا.
أبو سعدو: أنا لا أحب أن أضع نفسي تحت المسؤولية.
يوسف العظمة كان مجنوناً، وكذلك يوسف الفلسطيني. أما أبو هشام فلا أتبين غايته من هذا التورط؟!
زكريا: تورط أن تتضامن مع أهلك وذويك. قد يأتي يوم.. لن تجد فيه فلاحين في طبريا أو الجولان.. لتعقد صفقاتك المضمونة معهم.
أبو هشام: لا يهم.. الناس بل الصفقات يهود عرب عفاريت ما من فرق.
أبو فارس: يا أبا سعدو ما أحد يجبرك على أن تورط نفسك. ما هي إلا سهرة وأفكار..
أبو راشد: هذا خير من لعب الورق.
زكريا: لو كان كل الناس على هذه الشاكلة لصارت أسماء أولادنا جون وبيير وأندريه!!
أبو سعدو: ماذا نابك من ميسلون يا زكريا غير قطع ساقك من العنق؟!
زكريا: لو تطلب الأمر ساقي الأخرى لما ترددت، ولو احتاج روحي لما قصرت.
الآن أفهم لماذا انكسرنا في ميسلون. جيش بلا شعب/ إنسان بلا ظهر.
أبو هشام: بغال غورو هل سمعت عن بغال غورو؟!
بعد أن استشهد يوسف العظمة، وأصبحت عربة غورو على مداخل دمشق خرج بعض الديوثين الخونة.. ونزعوا الكدانيات عن بغال العربة، وكدنوا أنفسهم، وجروا العربة هكذا على ملأ من الناس فكيف لا يطمع بنا غورو وأمثال غورو؟!
زكريا: والأدهى من ذلك.. أنت يا أبا سعدو لست خليقاً بأن تعد نفسك من أحفاد صلاح الدين. والنشامى الذين رفعوا رايات حطين وعين حالوت وصبغوا الأرض بدماء شهدائهم حتى لا تطأها أرجل الصليبيين.
أبو هشام: حين وصل غورو إلى مقام صلاح الدين رفسه برجله قائلاً:
Saladin levez vous les crucades son ici
أبو سعدو: وشو يعني هذا بالعربي المبلطح.
أبو هشام: انهض يا صلاح الدين فالصليبيون هنا.
أبو سعدو: صلاح الدين قاتل الصليبيين وانتصر عليهم. أما يوسف العظمة فأراد أن يقاوم العين بالمخرز، والمدفع بالبارودة الدك، فكانت النهاية معروفة.
أبو فارس: إذا سطا حرامي على بيتك واختطف ابنتك أو زوجتك فماذا تصنع يا أخي؟!
أبو سعدو: صامتاً..
زكريا: رحمة الله عليك يا يوسف لا يفهمك إلا الذي مثلك ابن نخوة وعز. أبيت أن تسلم أرضك وتبيح حريمك وفضلت الموت.
أبو هشام: لعينيك يا زكريا.. نحن الذين ربينا على دم ميسلون نفضل الموت على الذل. والأمم التي تفضل الذل على الموت تضيع هويتها. وتخسر وجودها وحريتها.
أبو سعدو: محرج.. يحاول أن يخرج فيجلسه زكريا.. انتظر.. إذا لم تشأ التبرع واعتبرته ورطة، ما أحد لوى لك ذراعك.. والبقية موافقون.
أبو فارس: فليكن في مدى ثلاثة أيام نكون قد جمعنا الذي نريد.. نستأذن. يذهب بصحبة أبي راشد ويتبعه محنقاً أبو سعدو.
أبو هشام لزكريا: ألم أقرصك من ثوبك.. كنت أعرف موقفه سلفاً، مرابي ابن مرابي يتاجر بدم الناس.
زكريا: أعطيناه حماماً ساخناً فغسّله العرق لن يستطيع أن يغطي نفسه بعد اليوم.. وتفرق الجمع وذهب كل إلى سبيله.
وفي اليوم التالي لمح عارف أبو حسان وابنته يدخلان إلى بيت زكريا خلف، وتساءل ما عساه يصنع في بيت زكريا؟! كان يحمل معه صرة ليست بالكبيرة، لكنها كانت ذات ثقل.. وحين دخل رحب به الجميع فكلهم يعرفونه. لم يكن عارف يعلم أن هناك علاقة بين أبي حسان وبين هؤلاء وبعد أن ارتشف القهوة قال لابنه حسان: خذ الصرة بكلتا يديك وأعطها لزكريا. ففعل حسان ما أمره به أبوه أخذ زكريا الصرة وفتحها فإذا بها ملآنة بالصيغة: أساور وخواتم وحلق وعقود.. وقال: هذا كل ما تبرعت به أحياء حكر السرايا، والعمارة والقيمرية وقفا الأموي.
أغلب المتبرعين لم يكن لديهم عملة أو نقد فتبرعوا بالصيغة.
ثم مد يده إلى عبه وجيوبه وسحب منها رزم عملة فعلت أصوات الفرح بين الحاضرين ونهضوا جميعاً وأمسكوا بيدي أبي حسان وشكلوا حلقة وهم ينشدون:
قبل بعشر سنين
كنا فلاحين
وكنا مبسوطين
يا عيني قبل البرنيطة
ما بدها هاشيطه
كنا مبسوطين يا سيدي
قبل البرنيطة
فضحك الجميع وجلسوا واستأذن أبو حسان وانصرف وتبعه ابنه حسان وأضاءت في وعي عارف أن المقاومة الوطنية ليست عفوية على ما يبدو ومما رآه لا بد أن وراءها نوعاً من التنظيم؟! حتماً ليست الأحياء ومفاتيحها فحسب بل الأحزاب هي التي كانت تحرك الطلاب وتحرك العمال، وتحرك الأحياء وسر لهذه الخاطرة ومضى. إلا أنه حين هم بالانصراف لمح فتحي أفندي يتكلم مع عسكريين فلم يبلغ أبو حسان وابنه آخر الشارع حتى برزت لـه قوة فاعتقلته وذهبت به إلى سجن القلعة.
لم يستطع عارف أن يضع يده على حقيقة الأمر. كان أبو حسان مراقباً حين جمع التبرعات وتتبعه البوليس السري حين نقل التبرعات، لكنهم لم يعرفوا إلى أي بيت كان قد دخل. فألقوا القبض عليه، وتركوا لفتحي أفندي أن يتعرف من الحي على التحركات وأسرارها.
اقترب عارف من حسان وأخذه معه إلى بيته. وحاول أن يخفف عنه، لكنه كان مستغرقاً في كآبة عميقة لاعتقال أبيه.
عارف يشعر بمزيج من الخجل والرغبة حينما يطرق باب أبي حسان وتفتح لـه الباب سعاد ابنته. ابتسامتها تذهب بلبه، ونضارة كفيها الياسمينتين تغري عينيه بأناملها الطرية، وشعرها الخرنوبي المسدل على كتفيها يحاصره فلا يستطيع إلا أن يفكر بها بعد أن تأخذ منه الحاجات التي يبعثها أبوها إلى البيت.
وحين تكررت هذه الدراما العاطفية النقية وأبدت سعاد شيئاً من التعاطف مع عارف حلق به خياله إلى البعيد.
تعطيه طعاماً وفاكهة وحلوي فيشعر كأنما احتل موقعاً من قلبها. ويحلق به التصور فيرى نفسه عريساً، لـه عمل ثابت، ودخل ثابت، ودار وزوجة، حين يعود من العمل تنتظره مائدة عامرة وامرأة طلقة بشوشة.
ما هم إن كانت سعاد أعمر منه. فالقلوب لا تكبلها الأعمار. أحسن عارف بهذه المشاعر وأخذت تغزل حول خاطره خيوط غد مشرق. إلا أنه لم يجرؤ على أكثر من السلام والنظر.
ماذا يقول المعلم إن عرف حقيقة مشاعره نحو ابنته. أيمكن أن يخون من أمَّنه على بيته وعياله؟! فلتظل إذن عواطفه في عالم البراءة والتصور. هل هو حب هذا الذي تسلل إلى قلبه، أم أنها أحاسيس عابرة، يمحوها الزمن. فحب الفقير كحلمه لا يتحقق إلا بشق النفس.
كتم عواطفه، واستمر على هذه الحال, ولم يشعر أبا حسان ولا ابنه بحقيقة عواطفه، لا لأنه يخجل بها، بل لأنه غير متأكد من أن تصبح أو تؤول هذه العواطف حقيقة مجسدة.
ما هو إلا فتى، عليه أن ينهي تعليمه أولاً. لأنه يحلم من خلال الثقافة أن يغير واقعه. وحين يتغير واقعه. يمكن أن يفكر بالحب.. أما الآن فما بينه وبين حسان وأبيه عهد أمان وشرف. فليمض إلى ما هو مؤهل له.
وحين أحست سعاد بحرارة أنفاسه واضطرابها، لم تشجعه. لا لأنه أصغر منها