المعاصي وأثرها السيئ
إن سبب إهلاك الله للأمم السابقة هو الذنوب، والله جل وعلا قد وضح في كتابه العزيز أن من يعرض عن شرعه ومنهجه فإنه يسلكه عذاباً صعداً.
المعاصي وعقوبتها
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قضى بالخير والعزِّ لأهل الطاعة والإيمان، وبالذل والهوان لأهل الشر والعصيان، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله وحبيبه وصفيه وأمينه على وحيه، بشر وأنذر، وبلغ وأسدى ونصح، وجاهد ودعا، فلم يترك خيراً إلا دل أمته عليه، ولا شراً إلا حذرها منه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين ساروا على هديه والتزموا شريعته، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
لقد مَنَّ الله على هذه الأمة وجعلها أمة هداية وقيادة وسيادة، اختارها الله لأشرف رسالاته، واجتباها فبعث فيها أفضل رسله، وأنزل عليها أعظم كتبه، ووعدها النصر إن هي نصرت دينه، وبالكرامة والعزة إن هي تمسكت بطاعة ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
وقد كان لشرف هذه الأمة شرف قيادة العالم قروناً طويلة، ثم انتزعت قيادتها، ودالت دولتها، وتداعى عليها أعداؤها، وتتابعت عليها المصائب، وتلاحقت عليها المحن والنوائب، وشغل هذا الواقع المزري والوضع المتردي بال الغيورين من أبناء هذه الأمة المتطلعين لمستقبلها المشرق، وغدها المبهج بإذن الله،
ما الذي دهانا معشر المسلمين؟!
وما الذي أصاب أمتنا فذلت وهانت؟!
ما الدواعي والعوامل التي أوصلتها إلى حضيض الغبراء بعد أن كانت في ذرا العلياء؟!
ما الذي جرها إلى هذا المنحدر السحيق، وطوح بها في أعماق هذا الواقع الغريق؟
والجواب الذي لا يختلف فيه اثنان، هو: أن سبب ذلك كله الوقوع في الذنوب والمعاصي، ومما لا يقبل الجدل أن لله تعالى في هذه الحياة سنناً لن تتغير ولن تتبدل وتتحول في الكون أو الخلق، أو في حياة الأفراد والأمم والشعوب، فالأمة التي تسير على شرع الله ونهج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تصل إلى مبتغاها، وتنال مناها، والله يسددها وينصرها ويرعاها، وليس بين الله وبين أحدٍ من خلقه حسب ولا نسب، وإذا تركت الأمة أمر ربها وخالفت أحكام دينها، وتنكبت صراط رسولها؛ سلك الله بها طريق العناء والشقاء حتى تراجع دينها، وما أهون الخلق على الله إن هم أضاعوا أمره، وجاهروا بمعصيته، وقصروا في أحكام دينه، وهل عذبت أمة من الأمم في القديم والحديث إلا بسبب ذنوبها:إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].. وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تعالى يغار وغيرة الله تعالى أن يأتي المرء ما حرم الله عليه }.......
آثار المعاصي على الأمم والشعوب
أمة الإسلام: إن للمعاصي والذنوب أثراً بالغاً على الأبدان والقلوب، وشؤماً واضحاً في حياة الأمم والشعوب، قال الإمام العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في ذلك ما خلاصته: ومما ينبغي أن يعلم: أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، وهل في الدنيا شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي، فما الذي أخرج الوالدين من الجنة؟ ،وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، وبدله بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى؟ ،وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رءوس الجبال؟ ،
وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة:7]ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وزروعهم ودوابهم، حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطَّعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟
وما الذي رفع قرى اللوطية ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعا، ثم أتبعهم حجارة من سجيل أمطرها عليهم: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83].
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحابة العذاب كالظلل، فلما صار فوق رءوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات، ودمرها تدميراً؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأسٍ شديد فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء، وأحرقوا الديار ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علوا تتبيراً؟
وما الذي سلط عليهم أنواع العذاب والعقوبات مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير؟
وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، ومضى رحمه الله يعدد عقوبات الذنوب والمعاصي وآثارها على القلب والبدن في الدنيا والآخرة، مستقرئاً نصوص الكتاب والسنة ومتتبعاً أحداث الأمم والقرون وتاريخ المكذبين والمعاندين.
عقوبات أخرى للمعاصي
ومن عقوبات المعاصي حرمان العلم والرزق، والوحشة والعسرة والظلمة ووهن القلب والبدن، وحرمان الطاعة ومحق البركة، وهوان العبد على الله، ومن يهن الله فما له من مكرم، وفساد العقل، ووهن العزيمة، والختم على القلوب، وإطفاء نار الغيرة، وذهاب الحياء، وإزالة النعم وإحلال النقم، والخوف والرعب والقلق، وعمى البصيرة، ومنع القطر، وحصول أنواع العذاب والبلاء والنكال والشقاء في الدنيا وفي القبر وفي يوم القيامة.
وبالجملة: فكل شرٍ وفساد في الماء والهواء، والزروع والثمار، والمساكن والعباد والبلاد، والبر والجو والبحر، والعاجل والآجل؛ فسببه الذنوب والمعاصي، وقد امتلأ كتاب الله الكريم بما يؤكد هذه السنن لا سيما عند ذكر قصص المكذبين من الأمم السابقة ليكون فيها عبرة وعظة، ومزدجراً وذكراً لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
ويقول الله جل جلاله: فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق ]].
وقال الحسن البصري رحمه الله عن أهل المعاصي: [[إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم؛ أبى الله إلا أن يذل من عصاه ]].......
عاقبة الإعراض عن ذكر الله
أما آن لأمة الإسلام أن تدرك أن ما أصابها في هذا الزمن من ضعفٍ وفرقة واختلاف وتسلطٍ من الأعداء، إنما هو بسبب وقوع أبنائها في معاصي الله؟
أما كان الأجدر بها وهي تعايش ألواناً من العقوبات الدينية والدنيوية، الحسية والمعنوية -التي جلبتها المحرمات- أن تراجع دينها الحق وتدرك أن ما يطفح به العالم من الفوضى في كل مجالات الحياة، وما تعانيه كثيرٌ من البقاع من الحروب الطاحنة التي تقضي على الأخضر واليابس، والأمراض الفتاكة، والمجاعات الرهيبة، والفيضانات المهلكة، والزلازل والبراكين المدمرة، والحوادث المفزعة، كل ذلك بسبب ذنوب العباد، وإعراضهم عن ربهم: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً [الجن:17].. أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47].
أما ترون -أيها المسلمون- ما نزل بالأمم والشعوب من حولكم من آلام وعقوبات، وهل كانت إلا بسبب الذنوب والمعاصي؟ فقد غرقت كثيرٌ من المجتمعات في حياة جاهلية، في عقائدها وأفكارها، وأخلاق أبنائها وبناتها، فشاع الإشراك بالله، ومخالفة سنة رسول الله، وانتهكت حرمات الله، واقترفت كبائر الذنوب الجالبة لسخط الله، وعم الفسق وانتشر الفساد في البيوت والشوارع والأسواق، كل ذلك من غير نكير ولا تغيير
بل حتى عادت بعض الذنوب اليوم مما يفاخر به بعض الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله! فحقاً إن المسلمين اليوم يعيشون عصر غربة الإسلام وفي أوساط دعاة جهنم عياذاً بالله، فما أوسع حلم الله على عباده! إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].
هذا الأمر الخطير جديرٌ أن يتدارسه المسلمون اليوم على مستوى القادة والعلماء، والمفكرين والدعاة والمصلحين؛ لإيقاف هذا الزحف الهائل الذي يعرض الأمة كلها لسخط الله العاجل قبل الآجل.
هذا وإن الغيورين ليعلقون آمالاً جساماً على البعث الإسلامي الجديد، والصحوة الإيمانية الرشيدة، واليقظة الإصلاحية الحميدة التي تعم أقطار العالم الإسلامي بحمد الله وتوفيقه؛ لتعود بأبناء المسلمين وشبابهم إلى مصدر عزتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وما ذلك على الله بعزيز.
دعوة للتوبة النصوح
إن المعاصي ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا في قلوبٍ إلا أعمتها، ولا في أجسادٍ إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، ولا في نفوسٍ إلا أفسدتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها.
، إن المسئولية لصد وباء الذنوب وعواقبها الوخيمة على ديننا ومجتمعاتنا تقع على عاتق كل مسلم كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته } كل يقوم نفسه، ويحفظ أسرته، ويربي أولاده على حب الخيرات وترك المنكرات، ويسعى حسب قدرته واستطاعته لتطهير مجتمعه ومحيطه من أدران المعاصي، والله سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، حفظ أم ضيع.
ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، فعلى الألسنة أن تلهج بالاستغفار المستمر، والتوبة الدائمة النصوح التي تحققت فيها الشروط وانتفت عنها الموانع، لعل الله يعفو ويتوب ويتجاوز إنه قد وعد عباده بذلك في قوله سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة والهدى كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].