الزهد طريق إلى المحبةبسم الله و
الحمدلله و
الصلاة و السلام على رسول
الله و على آله و صحبه و من والاه ، أما بعد :فالزهد هو
عبارة عن انصراف الرغبة
عن الشيء إلى ما هو خير منه ، و هوترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة و
أن
يخلو قلبك مما خلت منه يداك ، و يعينالعبد على ذلك علمه أن الدنيا ظل زائل ،
و خيال زائر فهي كما قال تعالى: ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج
فتراه مصفراً ثميكون حطاماً ) " سورة الحديد : 20 " وسماها الله " متاع الغرور " و نهى عن
الاغترار
بها ، و أخبرنا عن سوء عاقبةالمغترين ، و حذرنا مثل مصارعهم و ذم من
رضي بها و اطمأن إليها ، و لعلمه أن وراءهاداراً أعظم منها قدراً و أجل خطراً ، و
هي دار البقاء ، يضاف إلى ذلك معرفته وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا
يمنعه
شيئاً كتب له منها ، و أن حرصه عليها لايجلب له ما لم يقض له منها ، فمتى تيقن
ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدارالآخرة ، فأما ما ينفع في الدار الآخرة
فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل فيقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ
لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَلا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة:87) .حقيقة الزهد:و ليس
المقصودبالزهد
في الدنيا رفضها فقد كان
سليمان و داود – عليهما السلام – من أزهد أهلزمانهما ، و لهما من المال و الملك و
النساء
ما لهما ، و كان نبينا صلى الله عليه وسلم من أزهد البشر على الإطلاق ، و له
تسع
نسوة ، و كان على بن أبي طالب و عبدالرحمن بن عوف و الزبير و عثمان – رضي
الله
عنهم - من الزهاد مع ما كان لهم منالأموال ، و غيرهم كثير ، و قد سئل
الإمام
أحمد : أيكون الإنسان ذا مال و هو زاهد ،قال : نعم ، إن كان لا يفرح بزيادته
ولا
يحزن بنقصانه ، و قال الحسن : ليس الزهدبإضاعة المال ولا بتحريم الحلال ، و
لكن
أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدنفسك ، و أن تكون حالك في المصيبة ، و
حالك
إذا لم تصب بها سواء ، و أن يكون مادحكو ذامك في الحق سواء .هذه هي حقيقة
الزهد،
وعلى هذا فقد يكون العبد أغنى الناس لكنهمن أزهدهم ؛ لأنه لم يتعلق قلبه
بالدنيا،وقد
يكون آخر أفقر الناس وليس له في الزهدنصيب ؛لأن قلبه يتقطع على الدنيا.من أقسامالزهد:و الزهد في
الحرام فرض عين ، أما
الزهد في الشبهات ، فإنقويت الشبهة التحق بالواجب ، وإن ضعفت
كان مستحباً ، و
هناك زهد في فضول الكلام والنظر و السؤال و اللقاء و غيره ، وزهد
في
الناس ، و زهد في النفس حيث تهون عليهنفسه في الله ، و الزهد الجامع لذلك
كله
، هو الزهد فيما سوى ما عند الله ، و في كلما يشغلك عن الله ، و أفضل الزهد إخفاء
الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ .من فضائلالزهد:لقد مدح
الله تعالى الزهد في
الدنيا و ذم الرغبة فيها فيغير موضع فقال تعالى: ( و فرحوا بالحياة الدنيا و ماالحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) " سورة الرعد : 26 " وقال عز وجل: (إِنَّمَا مَثَلُالْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ
أَنْزَلْنَاهُ
مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِنَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ
النَّاسُ
وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِالْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ
أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَعَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً
أَوْ
نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداًكَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍيَتَفَكَّرُونَ) (يونس:24) و قال: ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوابما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور ) " سورة الحديد : 23 " . و قال تعالى
حاكياً
عن مؤمن آل فرعون أنه قال: ( يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و
إن الآخرة هي دارالقرار ) " سورة غافر : 39 ". و عن ابن مسعود –
رضي
اللهعنه
– أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " كنتنهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ؛
فإنها
تزهد في الدنيا و تذكر الآخرة " . و عن سهل بن سعد الساعدي – رضي الله
عنه
قال : أتىالنبي صلى الله عليه و سلم رجل فقال : يا رسول الله دلني على
عمل ، إذا أنا عملته ،أحبني الله ، و أحبني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه و
سلم : "ازهد في الدنيا يحبك الله ، و ازهد
فيما في أيدي الناس يحبوك ".و عن سهل بن سعد – رضي الله عنه قال :
قال
رسول اللهصلى الله عليه و سلم : " لو كانت الدنيا تعدل عند اللهجناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة
ماء " . الأنبياء
أزهدالناس:الأنبياء و
المرسلون هم قدوة البشر
في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )و من طالع حياة سيد الأولين والآخرين علم كيف كان صلى الله عليه و
سلم
يرقع ثوبه ، و يخصف نعله ، و يحلب شاته ،و ما شبع من خبز الشعير يومين متتابعين
حتى قبض ، و كان لربما ظل اليوم يتلوى لايجد من الدقل ( رديء التمر ) ما يملأ
بطنه
، و في غزوة الأحزاب ربط الحجر على بطنهمن شدة الجوع ، و يمر على أهله الهلال
ثم
الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان : التمر و الماء ، و
كان يقول : " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر
للأنصار و المهاجرة ".و عن عائشة – رضي الله عنها قالت : "
إنما
كان فراش رسول الله صلى الله عليه و سلمالذي ينام عليه أدماً حشوه ليف " ، و
أخرجت
رضي الله عنها كساءً ملبداً و إزاراًغليظاً فقالت : " قبض رسول الله صلى
الله
عليه و سلم في هذين ".الصالحون على
درب الأنبياءساروا:و لما كان
صلى الله عليه و سلم هو
الأسوة و القدوة ، فقدسار على دربه الأفاضل ، فعن على – رضي
الله عنه أنه قال
: طوبى للزاهدين في الدنياو الراغبين في الآخرة أولئك قوم اتخذوا
الأرض
بساطاً ، و ترابها فراشاً ، و ماءهاطيباً ، و الكتاب شعاراً ، و الدعاء
دثاراً
، و رفضوا الدنيا رفضاً . و كتب أبوالدرداء إلى بعض إخوانه ، أما بعد :
فإني
أوصيك بتقوى الله ، و الزهد في الدنيا ، والرغبة فيما عند الله ، فإنك إذا فعلت
ذلك
أحبك الله لرغبتك فيما عنده ، و أحبكالناس لتركك لهم دنياهم، و السلام.و عن عروة بن الزبير أنأم المؤمنين عائشة جاءها يوماً من عند
معاوية
ثمانون ألفاً ، فما أمسى عندها درهم ،قالت لها جاريتها : فهلا اشتريت لنا
منه
لحماً بدرهم ؟ قالت : لو ذكرتني لفعلت .و قال ابن مسعود – رضي الله عنه - :
الدنيا
دار من لادار له ، و مال من لا مال له ، و لها يجمع من لا علم له . و
لما
قدم عمر – رضي اللهعنه – الشام تلقاه الجنود و عليه إزار و خفان و عمامة ، و
هو
آخذ برأس راحلته يخوضالماء ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ،
يلقاك الجنود و بطارقة
الشام و أنت على حالتكهذه ، فقال : " إنا قوم أعزنا الله
بالإسلام ، فلن نلتمس
العز بغيره ".و دخل رجل على أبي ذر – رضي الله عنه –
فجعل يقلب بصره في
بيته ، فقاليا
أبا ذر : ما أرى في بيتك متاعاً ،
ولا أثاثاً ، فقال : إن لنا بيتاً نوجه
إليهصالح
متاعنا و قال : إن صاحب
المنزل لا يدعنا فيه .وكانعمرو بن العاص – رضي الله عنه- يخطب
بمصر
و يقول : ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلىالله عليه و سلم ، أما هو فكان أزهد
الناس
في الدنيا و أما أنتم فأرغب الناس فيها . و قال على – رضي الله عنه – تزوجت
فاطمة
ومالي و لها فراش إلا جلد كبش ، كنا ننامعليه بالليل ، و نعلف عليه الناضح (
البعير
) بالنهار ومالي خادم غيرها ، و لقدكانت تعجن ، و إن قصتها لتضرب حرف
الجفنة
من الجهد الذي بها . و لما حضرت الوفاةمعاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال:
اللهم
إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا و طولالبقاء فيها لكرى الأنهار ، ولا لغرس
الأشجار
، و لكن لظمأ الهواجر ، و مكابدةالساعات ، و مزاحمة العلماء بالركب عند
حلق
الذكر . و قد ذكر الإمام أحمد أن أفضلالتابعين علماً سعيد بن المسيب ، أما
أفضلهم
على جهة العموم و الجملة فأويس القرني، و كان أويس يقول : توسدوا الموت إذا
نمتم
و اجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم ، و قالمالك بن دينار : يعمد أحدهم فيتزوج
ديباجة
الحي ( فاتنة الحي ) ، فتقول : أريدمرطاً ( أكسية من صوف ) فتمرط دينه ( أى
تذهب به ) . و كان كثير من السلف يعرض لهمبالمال الحلال ، فيقولون : لا نأخذه ،
نخاف
أن يفسد علينا ديننا ، و كان حماد بنسلمة إذا فتح حانوته و كسب حبتين قام ،
و
كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت ، و خلفأربعمائة دينار ، و قال : إنما تركتها
لأصون
بها عرضي وديني . و قال سفيان الثورى : الزهد في الدنيا قصر الأمل ، ليس بأكل
الغليظ
ولا بلبس العباءة . و قال الشافعي فيذم الدنيا و التمسك بها:
و ما هى إلا
جيفة مستحيلة
عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها
كنت سلما لأهلها
وان تجتذبها نازعتك كلابها
وكان أبو
سليمان الداراني يقول :
كل ما شغلك عن الله ، من أهل ومال وولد فهومشؤوم .
طويت الدنيا
عمن هم أفضل منا:
[/center]
ويكفي أن في الزهد التأسي برسول الله
صلي
اله عليه وسلم وصحابته الكرام ،كما أن فيه تمام التوكل على الله ، وهو يغرس في القلب
القناعة،إنه
راحة في الدنياوسعادة
في الآخرة . و الزاهد يحبه الله ويحبه الناس فإن
امتلكت فاشكر، وأخرج
الدنيامن قلبك ،
وان افتقرت فاصبر فقد طويت عمن هم أفضل منك ، فقد
كان نبيك صلي الله
عليهوسلم نيام على
الحصير حتى يؤثر في جنبه ، ومات وفي رف أم
المؤمنين عائشة حفنة منالشعير تأكل منها ، وكنت إذا دخلت بيوت
رسول الله صلي الله
عليه وسلم نلت السقف ،وخطب عمر بن الخطاب وهو خليفة المؤمنين
وعليه إزار به اثنتا
عشرة رقعة .
لقد طويت الدنيا
عنهم ولم يكن ذلك
لهوانهم على الله ، بل لهوان الدنياعليه سبحانه .، فهي لا تزن عنده جناح
بعوضه ، وركعتا
الفجر خير من الدنيا وما فيها . فلا تأس ولا تجزع على ما فاتك منها ،
ولا تفرح بما
أتاك؛ فالمؤمن لا يجزع من ذلهاولا يتنافس في عزها له شأن و للناس شان ،
وكن عبداً لله
في عسرك و يسرك و منشطكومكرهك ، وسواء أقبلت عليك الدنيا أو أدبرت فإقبالها إحجام ،
وإدبارها إقدام ،والأصل
أن تلقاك بكل ما تكره فإذا لاقتك بما تحب فهواستثناء