عن أنس بن
مالك (رضى الله عنه) عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ثلاث من كُنَّ
وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب
المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف فى
النار) [رواه البخارى].
من هذا الحديث الشريف يتضح لنا أن الإيمان له حلاوة وطعم يخلص إلى قلب
المؤمن فيجد له ذوقًا وطعمًا وحلاوة, وهذا ما يستشعره أرباب القلوب الحية,
أما أصحاب القلوب السقيمة.. هيهات هيهات أن يجدوا تلك الحلاوة, فقد قال سيد
من سادات التابعين: (التمسوا الحلاوة فى ثلاث: فى القرآن, والصلاة,
والذكر.. وإلا فاعلموا أن الباب مغلق).. نعم, إن للقرآن لحلاوة, وسجدة فى
جوف الليل تناجى فيها ربك لحلاوة, وذكر وابتهال وتضرع وبكاء.. كل ذلك له
حلاوة.. فإذا لان القلب وفتح القفل.. فتحت لك أبواب من النعيم يجعل النوم
يفارق عيناك.. قال تعالى: )كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ( (الذاريات: 17- 18).
كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تنام عينه ولا ينام قلبه, فالنوم أخو
الغفلة, فكان قلبه بالمحل الأعلى لا ينام كما ينام أهل الغفلة الذين تنام
قلوبهم وعقولهم يقظة ومنامًا, ومن كانوا على سنن الهدى يهتدون برسول الله
(صلى الله عليه وسلم) قليلاً ما تنام عيونهم ليقظة قلوبهم؛ لأن القلوب قد
طهرت وتزكت حتى فتح قفلها لتتدبر آيات الله, قال تعالى: )أَفَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( (محمد: 24).
وقد يستشعر الكافر حلاوة القرآن ولكنها لا تستقر فى قلبه, كما قال الوليد
بن المغيرة: (إن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة)... ولكن تلك الحلاوة لم تدم
معه؛ لأنه لم يحقق الشروط الثلاث التى وردت فى هذا الحديث الجامع لحقيقة
الإيمان.. ويعد هذا الحديث أصلاً من أصول الدين.
معنى الحلاوة:
لا تحصل تلك الحلاوة التى هى أعلى الملذات إلا بالتخلى عن هوى النفس,
والتخلى عن الرذائل, وترك العوائد, وهجر المألوفات, والإعراض عن زهرة
الحياة الدنيا, والتحلى بالكمالات التى تؤهل النفس أن تسمو فوق الشهوة
والشبهة, حتى تكون بالمحل الأعلى من الفضائل, والتخلق بالأخلاق الفاضلة من
الجود والإيثار والحِلْم والشفقة والتواضع وغيرها من مكارم الأخلاق,
والتحلى بالصبر الجميل الذى يصير العبد به جميلاً لتحمله أعباء الدعوة,
وتحمله مشاق الدين, والصبر على الابتلاء والإيذاء من المعرضين عن الدين
والتوحيد ومنهج أهل السنة والجماعة, تحقيقًا لقوله تعالى: )وَالْعَصْرِ*
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( (العصر:
1- 3).. فالتواصى, أى: التمسك به, والصبر عليه, والمصابرة معه, وبذل النصح
لأخيك كى يتمسك معك, حتى يكون الكل فى وحدة البناء الإسلامى يشد بعضه
بعضًا, كالبنيان المرصوص الذى يشد بعضه بعضًا.
ولا سبيل للتحقق بتلك الحلاوة التى تتذوقها القلوب إلا بالتوحيد والعبادة
والمتابعة الكاملة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم), وهو الشرط الأول
لتحصيل هذا الذوق العالى.
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما:
لاشك أن هذا الحديث الشريف أصل من أصول الاعتقاد والمتابعة لسنة رسول الله
(صلى الله عليه وسلم), ومعنًى خاصًّا من معانى الأخوة والالتزام بعرى
الإيمان, والتمسك بحقيقة الإسلام.
إن المتتبع لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليجد قمة الإعجاز
البيانى؛ لأنه أوتى جوامع الكلم, فما ينطق (صلى الله عليه وسلم) عن الهوى؛
لأن كلمه الذى يتكلم به بين ظهرانى الناس وحى يوحى من جنس ما أوحى إليه,
ولو كان فى كلامه, وما صح عنه (صلى الله عليه وسلم) كلامًا مردودًا كما
يرده أهل الغواية والعقلانيون الذين حجبوا بكثافة العقل عن الفهم عن رسول
الله (صلى الله عليه وسلم), ولو كان كذلك لكان كلامه كله فى أخذ ورد,
وحاشاه (صلى الله عليه وسلم) أن يتكلم عن هوًى أو خطأ, فقد قال: (ألا إنى
أوتيت القرآن ومثله معه).
فكلامه (صلى الله عليه وسلم) حياة للقلوب؛ لأنه كلم طيب, وقد ضرب الله
المثل للكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة, فكلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
حبات تبذر فى القلوب, فإذا صادفت أرضًا طيبة نبتت تلك الحبة مع سقيها بماء
المتابعة لحضرته (صلى الله عليه وسلم), وضربت جذورها فى القلب فرست على
التوحيد.. )أَصْلُهَا ثَابِتٌ(, ويكون فرعها فى السماء ﺒ (المشاهدة),
وتستوى على ساقها بعمل الطاعات, وتتفرع أوراقها على التقرب بالنوافل
والقربات, فتثمر ثمرًا طيبًا له حلاوة يجدها العبد فى قلبه, فيزداد نشاطًا,
وتعلو همته من جديد, فلا يشعر بألم التجريد؛ لأنه ذاق طعم وحلاوة التوحيد,
فتجده مثلاً يألف الصوم بينما يتضجر منه الآخر, وتجده يستعذب المشاق فى
طريق الله من البِرِّ والصلة والسعى لقضاء حوائج الناس بينما لا يطيق ذلك
سواه, كما تجده يكابد الليل صافًّا قدمه يتلو آيات ربه, ساجدًا فى جوف
الليل, قائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه, ويستثقل ذلك غيره, كما يبذل كل
غال ونفيس من أجل مرضاة ربه؛ لأنه ذاق حلاوة كلام رسول الله (صلى الله عليه
وسلم).
ففى قوله: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما):
فمحبة الله أن توحد الله, لا تشرك به شيئًا, ألا تخاف أحدًا غير الله مهما
علا سلطانه, ونفذت كلمته, وعلا منصبه, قال تعالى: )وَكَيْفَ أَخَافُ مَا
أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ
بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( (الأنعام: 81).
إن التحقق بهذا المعنى أن تكون قويًّا شجاعًا لا تخاف فى الله لومة لائم,
ولا تخاف من إنس ولا جان, ولا أى شىء سوى الله (عز وجل), فمن خاف شيئًا سوى
الله تمثل له ذلك الشىء المخوف فى قبره فيفزعه إلى قيام الساعة, ومن خاف
الله هابه كل شىء.. وانظر إلى قوة إيمان عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) كيف
أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال فيه: (والذى نفسى بيده ما لقيك
الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فَجِّكَ) [رواه الشيخان].
ولك فى أبيك إبراهيم (عليه السلام) أسوة حسنة؛ لأنه سمَّانا المسلمين من
قبل, لم يخف من بطش الكهان, ولا لعنة الأوثان, إن قوة الإيمان والثبات على
التوحيد جديران أن يحققا للأمة مجدها الذى كان عليه السلف الصالح.. ولما
عرض للنيران لم يخف لهيب النار؛ لأن نور التوحيد أبطل خاصية الإحراق فيها..
ولم يلتفت لجبريل (عليه السلام) حينما تعرض له؛ لأن قلبه كان مشغولاً
بالله عما سواه, فقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (أن يكون الله
ورسوله أحب إليه مما سواهما), ولم يقل: (من ما)؛ لأن (ما) هنا تتعدى للعاقل
وغير العاقل.. فهذا الخليل لم يلتفت نفسًا إلى جبريل ولا إلى النار.
الى بستان الحب